قاعدة في المعجزات والكرامات
وأنواع خوارق العادات
قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات،
ومنافعها ومضارها
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، العارف الرباني،
المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
رضي الله عنه وأرضاه: الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب
ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
إلى يوم الدين.
قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات
وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف
الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل
وغيره - ويسمونها: الآيات - لكن كثير من المتأخرين يفرق
في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق
للعادة.
فنقول:
صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى،
وإن شئت أن تقول: العلم والقدرة، والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على
الترك وهو الغنى، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده،
فإنه الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين. وقد أمر الرسول ﷺ
أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم
الغيب، ولا أقول لكم إني ملك، إن أتبع إلا ما يوحى إلي) وكذلك قال نوح عليه
السلام. فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض. وهذا خاتم
الرسل وخاتم أولي العزم، كلاهما يتبرأ من ذلك. وهذا لأنهم يطالبون الرسول ﷺ تارة
بعلم الغيب كقوله (ويقولن متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ويسألونك عن الساعة أيان
مرساها؟ قل إنما علمها عند ربي) وتارة بالتأثير كقوله (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر
لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا،
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا - إلى قوله - قل سبحان ربي،
هل كنت إلا بشرا رسولا؟) وتارة يعيبون عليه الحاجة والبشرية، كقوله (وقالوا ما
لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا،
أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها؟) فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا
يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحي إليه،
واتباع ما أوحي إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علما وعملا بالباطن
والظاهر. وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه
إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغني عما أغناه الله عنه من الأمور
المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس.
أنواع الخوارق العلمية والعملية
فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد
ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناما، وتارة بأن يعلم ما
لا يعلم غيره وحيا وإلهاما، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفا ومشاهدات،
ومكاشفات ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله
كشفا ومكاشفة، أي كشف له عنه.
وما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقا
ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثر له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير
أثر منه كقوله " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة - وإني لأثأر لأوليائي
كما يثأر الليث المجرد " ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك. وكذلك
ما كان من باب العلم والكشف قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي ﷺ في المبشرات
" هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له " وكما قال النبي ﷺ
" أنتم شهداء الله في الأرض
".
وكل واحد من الكشف والتأثير قد يكون قائما به وقد لا
يكون قائما به بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن اسباط
" ما صدق الله عبد إلا صنع له " وقال أحمد بن حنبل
" لو وضع الصدق على جرح لبرأ " لكن من قام بغيره
له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضا، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات
الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك.
جمع لنبينا ﷺ أنوع المعجزات والخوارق
وقد جمع لنبينا محمد ﷺ جميع أنواع المعجزات والخوارق.
أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل أخبار نبينا ﷺ عن الأنبياء
المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم
بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك
إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير
تعلم منهم. ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب
الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعمله الخاصة من علمائهم، وفي مثل
هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه.
فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من باب
العلم الخارق، وكذلك أخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته وزوال مملكة فارس
والروم، وقتلا الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في كتب
دلائل النبوة وسيرة الرسول وفضائله وكتب التفسير والحديث والمغازي، مثل دلائل
النبوة لأبي نعيم والبيهقي وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام
أحمد، والمدونة كصحيح البخاري وغير ذلك مما هو مذكور أيضا في كتب أهل الكلام والجدل كأعلام
النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردي، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جدا.
وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين، وهي في وقتنا هذا
اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى كالتوراة والإنجيل والزبور وكتاب شعيا
وحبقوق ودانيال وأرميا. وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان، وكذلك
أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات
وتعبيرها كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما
عبر هو من أعلامهم.
أنواع الخوارق بالقدرة والتأثير الرباني
وأما القدرة والتأثير.. فإما أن يكون في العالم العلوي
أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أو مركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما
حيوان وإما نبات وإما معدن. والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر
ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليا الصلاة والنبي ﷺ نائم في حجره -
إن صح الحديث - فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض. ومنهم من جعله موقوفا
كأبي الفرج بن الجوزي، وهذا أصح. وكذلك معراجه إلى السماوات.
وأما الجو.. فاستسقاؤه واستصحاؤه غير مرة، كحديث
الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما، وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك
إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وأما الأرض والماء.. فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء
في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة.
وأما المركبات.. فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق
من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد
الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير
واحد من الأرض كعين أبي قتادة. وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته
بخصوصه وإنما الغرض التمثيل.
وكذلك من باب القدرة: عصا موسى ﷺ وفلق البحر والقمل
والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن
من باب العلم إخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وفي الجملة لم يكن المقصود
هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها.
وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم
فمثل قول عمر في قصة سارية، وأخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وأخبار عمر بمن
يخرج من ولده فيكون عادلا. وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام، والقدرة مثل قصة
الذي عنده علم من الكتاب. وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد وسفينة
مولى رسول الله ﷺ وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها. فإن تعداد هذا مثل المطر.
وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس. وأما القدرة التي لم تتعلق
بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه.
فصل في أن الخارق يكون نعمة من الله، ويكون سببا للعذاب
الخارق كشفا كان أو تأثيرا إن حصل به فائدة مطلوبة في
الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينا وشرعا، إما واجب وإما مستحب. وإن
حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرا، وإن كان على وجه يتضمن
ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سببا للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات
فانسلخ منها: بلعام بن عوراء، لكن قد يكون صاحبها معذورا لاجتهاد أو تقليد أو نقص
عقل أو علم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة فيكون من جنس "برح" العابد، والنهي قد يعود
إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهيا عنه
اعتداء عليه. وقد قال تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) ومثل
الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفا أو تأثيرا.
والثاني: أن يدعو على غيره بما لا يستحقه، أو يدعو للظالم
بالإعانة ويعينه بهمته، كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال. فإن كان صاحبه من
عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة بحيث يعذرون والناقصين نقصا لا يلامون عليه كانوا
برحية. وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه، وإن كانوا
عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي
عنه فإما أن يكون معذورا معفوا عنه كبرح أو يكون متعمدا للكذب كبلعام.
فتخلص أن الخارق ثلاثة أقسام: محمود في الدين، ومذموم في الدين،
ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين. فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة وإن لم يكن
فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لا منفعة فيها كاللعب والعبث.
قال أبو علي الجوزجاني: كن طالبا للاستقامة لا طالبا
للكرامة، فإن نفسك منجلية على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة.
قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا الذي ذكره أصل عظيم
كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين
والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق
العادات فأبدا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئا من
ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهما لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من
ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين
الصادقين من ذلك بابا. والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار
القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد
يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين
أغني بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين
فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينا، فلا تقتضي الحكمة كشف
القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع
حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادا وأهلية من الأول، فسبيل الصادق مطالبة
النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما
يبالي ولا يقنص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة.
فتعلم هذا لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين،
ومشايخ الصوفية.
فصل في كشف كلمات الله الكونية، وكلماته الدينية
كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية.
فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي ﷺ في قوله " أعوذ بكلمات الله
التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر " وقال سبحانه (إنما أمره إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون) وقال تعالى (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا) والكون كله داخل تحت
هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.
والنوع الثاني: الكلمات الدينية وهي القرآن وشرع الله
الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل،
والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عموما وخصوصا من الأول العلم بالكونيات
والتأثير فيها. أي بموجبها.
كلمات الله قدرية كونية -منها الخوارق- وشرعية، وأقسام
الناس فيها ثلاثة
فالأولى قدرية كونية، والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى
العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى
التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما أن الأولى تنقسم
إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء، وجلوسه على الناس، وإلى
تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى
تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله. والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنا وظاهرا، وإلى
تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل
النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات. كما قبلت من
الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علما وقدرة لا تضر
المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات،
لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله. بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن
وجود ذلك في حقه مأمورا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير
الإنسان ناقصا مذموما إما أن يجعله مستحقا للعقاب، وإما أن يجعله محروما من الثواب،
وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته
وثوابه، وأما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلا في
الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم.
إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم
والقدرة بالدين فقط، أو بالكون فقط، [وإما أن يجتمع له الأمران معا].
بيان الأقسام الثلاثة في الخوارق العلمية والعملية
والدين
فالأول:
كما قال لنبيه ﷺ (وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج
صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند
الله، وهو كلماته الدينية والقدرية الكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء
عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنهما حجة على النبوة من الله وهي قدرة. وأبلغ ذلك
القرآن الذي جاء به محمد ﷺ، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد ﷺ
على نبوته ومجيئه من الخوارق للعادات. فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة.
وأما القسم الثاني: فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرا
وأمرا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض،
وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح
وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل. وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال
والرياسة، وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة،
أو إطفاء نار ونحو ذلك.
وأما الثالث: فمن يجتمع له الأمران، بأن يؤتى من الكشف
والتأثير الكوني، ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي. وهو علم الدين والعمل به،
والأمر به، ويؤتى من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني،
بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية،
بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها،
ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد
ﷺ وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين.
فهذا القسم الثالث هو مقتضى (إياك نعبد وإياك نستعين) إذ
الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد ﷺ والخواص من أمته
المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنا وظاهرا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحجة
أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا
إيمانا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علما وعملا كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب
منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو
بالحصى الذي رماهم به فقيل: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وكل من هذين يعود
إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على المسلمين فإن هذا من جملة
الدين والأعمال الصالحة.
ما يكون من الخوارق كمالا وما يكون نقصا
وأما القسم الأول - وهو المتعلق بالدين فقط - فقد يكون
منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة والتابعين
وصالحي المسلمين وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لا بد أن يكون لهم شخصا أو نوعا بشيء من
الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني
في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون
نقصا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصا وقد لا يكون نقصا، فإن كان لإخلاله
بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله
بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصا عن رتبة أصحاب اليمين
المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسب بالكونيات التي لا يكون عدمها
ناقصا لثواب لم يكن ذلك نقصا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافى أو
يجيء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه.
وأما القسم الثاني - وهو صاحب الكشف والتأثير الكوني -
فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصا، وتارة لا له ولا عليه،
وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، وهذا الثاني
بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيا، فيكون خير أهل الأرض، وقد
يكون ظالما من شر الناس، وقد يكون ملكا عادلا فيكون من أوساط الناس فإن العلم
بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها
بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة
روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جثمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل
من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء.
وذلك من وجوه: أحدها: أن علم الدين طلبا وخبرا لا ينال
إلا من جهة الرسول ﷺ، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسول
وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه
إلا هم وأتباعهم.
الثاني: أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون
الذين هم أهل الجنة وأحباب الله وصفوته وأحباؤه وأولياؤه ولا يأمر به إلا هم.
الكشف والتأثير الروحاني قد يكونان مفاسد في الدين
والدنيا
وأما التأثير الكوني فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر،
تأثيره في نفسه وفي غيره كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة
المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصا بالصالحين أفضل مما يشترك
فيه المصلحون والمفسدون.
الثالث: أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة
ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى
(ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون).
المنافع الدينية والدنيوية بأسبابها أعم وأعظم منها
بالخوارق
الرابع:
أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون،
فإن لم يكن فيه فائدة كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة والاجتماع
بالجن لغير فائدة والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر فهذا لا منفعة فيه لا
في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله
وهو تحت القدرة والسلطان في الكون مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام
الحالة عند الناس بلا فائدة فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال
والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر
مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى.
وأما الآخر أيضا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين، والدين وحده موجب للآخرة بلا
خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد ﷺ وكذلك
المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين وإلا فالخوارق
وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرا ضعيفا.
فإن قيل: مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في
الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم
يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية.
قلت: نعم لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه
من غير فعل الناس. وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول، أولا:
الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه
لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر،
والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينا، وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل
فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي
والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين.
ثم نقول ثانيا: لو كان صاحب الخارق يناله من الرياسة
والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكا من الملوك، بل ملكه إن لم
يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا
التي ينالها الملوك بسياستهم وشجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد،
فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة.
الخامس: أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع
عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير.
أسباب الكشف والتأثير الخارق للعادة ومضارهما
وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك
صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك
المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس
إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة
خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله
والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها، كما يفعله
مولهو الأحمدية - فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقي نفسه شقاء لا مزيد
عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات،
وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه
لعقوبتهم ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على
ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين - فهذا القدر إذا فعله
الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ
أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من
جنس عمل أولئك سواء.
ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه
يحابي بذلك أقواما ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من
هذه الأمة وغيرهم. وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا،
ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله لأن ما أمر الله به
ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى.
السادس: أن الدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق
العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه. قال الله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من
حيث لا يحتسب) وقال تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) وقال تعالى (ولو أنهم
فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما،
ولهديناهم صراطا مستقيما) وقال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون،لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
وقال رسول الله ﷺ " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر
بنور الله - ثم قرأ قوله تعالى - إن في ذلك لآيات للمتوسمين " رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد.
وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله ﷺ " من
عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه،
ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر،
وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في
شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له
منه " فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعا
وبصرا، وبه يعمل بطشا وسعيا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف
عنه ما يستعيذ به من المضار. وهذا باب واسع.
وأما الخوارق فقد تكون مع الدين وقد تكون مع عدمه أو
فساده أو نقصه.
الخوارق تكون مع الدين ومع عدمه، وحق كل منهما
السابع:
أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت
به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبيبة إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعي من
العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما
عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما
فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على
الدين كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها. ولما فيها من دفع المضار عن
الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته.
ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة
لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة؟ هذا نتكلم عليه.
الخوارق في نفعها بالدين وله، وضررها في سواه كالرياسة
والمال
وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد ﷺ. قال
ﷺ " ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي
أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " أخرجاه
في الصحيحين. وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء. ولهذا يجد كثيرا من المنحرفين
منا إلى العيسوية يفرون من القرآن والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى
الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى القال، ونبينا ﷺ صاحب القال والحال، وصاحب
القرآن والإيمان.
ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في
مرتبة (إياك نستعين) والدين في مرتبة (إياك نعبد) فأما الخارق الذي لم يعن الدين
فإما متاع دنيا أو معبد صاحبه عن الله تعالى.
فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له كما
أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال
بيد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين
تابعا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين،
وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به وهو على سبيل
نجاة وشريعة صحيحة.
والعجب أن كثيرا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن
يكون دينه خوفا من النار أو طلبا للجنة يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا
ولعله اجتهادا عظيما في مثله وهذا عرف، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه
وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانا على صحة دينه،
كما تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك.
ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم
بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم
أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله.
فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من
الخوارق ما لا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة.
فصل في طرق العلم بالكائنات وكشفها والعلم بالدين
بقسميه: "الخبر" و"الإنشاء"
العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة: حسية وعقلية
وكشفية وسمعية ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن
شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام
الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومناما كما كتبه في الجهاد.
أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان: أمور خبرية
اعتقادية وأمور طلبية عملية. فالأول: كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر،
ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم
وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار، وما في الأعمال من الثواب والعقاب،
وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى
الجدال فيه بالعقل كلاما. ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل
الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.
والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارج
والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد
يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علما واعتقادا أو خبرا صادقا أو كاذبا
يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورا به أو منهيا عنه يدخل في القسم الثاني،
مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها
صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها
يصير مؤمنا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرا يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.
المتفق عليه والمختلف فيه من طرق العلم بالدين
وقد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين
كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم
في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم
بالسمع أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر
للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل
الكبار في القسم الأول، مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة
والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن
السمع لا يثبت إلا بعد تلك المسائل فإثباتها بالسمع... حتى يزعم كثير من القدرية
والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء
وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه
لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستو على العرش.
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال
بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقا بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد
اليقين بما زعموا.
ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث
المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين.
ويزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على
شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني. وأنواع من
هذه المقالات التي ليس هذا موضعها.
فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو
مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعا كثيرا.
وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم
لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على
ذلك. وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء، من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا
من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها.
الدلائل العقلية والنقلية والكشفية وغلو الفرق في كل
منها
فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية
طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيا وإثباتا، فمن
الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره
وينفي ما سواه. فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض
وهم أكثر خلق الله تناقضا واختلافا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيا.
وطائفة ممن تدعي السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث
موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب. وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوي، وكثير من
المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفا وهي خيالات غير
مطابقة، وأوهام غير صادقة (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا)
فنقول:
أدلة الشرع المجمع عليها والمختلف فيها وأقسامها
أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه
فهي - بإجماع المسلمين: الكتاب، لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك كما خالف بعض أهل
الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الإعتقادية.
والثاني: السنة المتواترة التي لا تخالف ظاهر القرآن بل
تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها، وصفة الحج والعمرة
وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة.
وأما السنة المتواترة التي لا تفر ظاهر القرآن، أو يقال
تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجك الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف
العمل بها أيضا إلا الخوارج، فإن من قولهم - أو قول بعضهم - مخالفة السنة، حيث قال
أولهم للنبي ﷺ في وجهه: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. ويحكي عنهم أنهم لا
يتبعونه ﷺ إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن
إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما
يمرق السهم من الرمية. وقال النبي ﷺ لأولهم " لقد خبت وخسرت إن لم أعدل
" فأجوز جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال،
وهو معتقد أنه أمين الله على وجيه، فقد اتبع ظالما كاذبا وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه
من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي ﷺ
" أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟ " أو كما قال، يقول ﷺ إن أداء
الأمانة في الوحي. أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسميه.
وقد ينكر هؤلاء كثيرا من السنن طعنا في النقل لا ردا للمنقول
كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض
والصراط والقدر وغير ذلك.
الخلاف في السنن المتلقاة بالقبول وفي الإجماع والقياس
الطريق الثالث: السنن المتواترة عن رسول الله ﷺ، إما
متلقاة بالقبول من أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها. وهذه أيضا مما اتفق أهل
العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض
أهل الكلام، وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم، فلم
يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرا منها بشروط اشترطها،
ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضا، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم،
أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه أو
غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه.
الطريق الرابع: الإجماع وهو متفق عليه بين عامة المسلمين
من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع
من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك
فتعذر العلم به غالبا، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد
الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي
لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك.
الطريق الخامس: القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضا
عند جماهير الفقهاء، لكن كثيرا من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن
النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث
وأهل القياس من ينكره رأسا، وهي مسألة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقض.
الطريق السادس: الاستصحاب، وهو البقاء على الأصل فيما لم
يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في
اعتقاد العدم؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم
الشرعي، مثل أن يقال: لو كانت الأضحية أو الوتر واجبا لنصب الشرع عليه دليلا
شرعيا، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب.
فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى
يثبت المغير له. وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم
من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم
والدواعي على نقله وما توجب الشرعية نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم
ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة
وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم
بالسنن والآثار وسيرة النبي ﷺ وخلفائه انتفاء أمور من هذا هذا، لا يعلم انتفاءها
غيرهم، ولعلمهم بما بنفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم
نقلها؛ فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
الخلاف في دلالة المصالح المرسلة وعد أذواق الصوفية منها
الطريق السابع: المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن
هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور،
فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة، ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان،
وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل
مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص
المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل
المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه
الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.
وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا
كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي. وفي الدين ككثير
من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع
شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ
الجسم فقط فقد قصر.
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به فإن من جهته حصل في
الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء
على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على
المصالح المهدية كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء
علىأن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد
يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.
وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد
دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها.
وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا.
تحقيق القول في مسألة المصالح المرسلة والاستحسان وما في
معناهما
والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به
الله. وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك،
فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنا كما أن
الاستقباح رؤيته قبيحا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان،
والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق.
والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله
تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به
النبي ﷺ وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما
اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل
عليه هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في
الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر
(قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).
اختلاف أهواء الناس في المنافع والمضار والمصالح
والمفاسد دنيا ودينا
وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل
الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا
ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين
والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات
والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد (ضل سعيهم في الحياة
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا. فإذا كان الإنسان
يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب. وهذا بخلاف
الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. فإن باب جحود الحق ومعاندته من باب
جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين
القسمان. فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث يخطئون تارة ويتعمدون الكذب
أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون ما يعلمون أنه ظلم،
وقد يعتقدون أنه ليس بظلم وهو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى (وحملها
الإنسان أنه كان ظلوما جهولا) فتارة يجهل وتارة يظلم: ذلك في قوة علمه، وهذا في
قوة عمله.
واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول، وبين
أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول هذا جائز أو حسن، بناء على ما رآه، وهذا يفعله من
غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعا في مثل السماع المحدث: سماع
المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله
لما يجده من لذته، وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما
يفعل مع القرآن.
وهذا يقول جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة، وهو
نظير المقالات المبتدعة. وهذا يقول هو حق لدلالة القياس العقلي عليه. وهذا يقول
يجوز ويجب اعتقادها وإدخالها في الدين إذ كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من
الولاة والقضاء وغير ذلك.
ما اتفق عليه واختلف فيه من الحسن والقبح والنفع والضر..
إلخ
واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز
بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة،
ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في
المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات،
ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان
والمنافي له واللذيذ والأليم - فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال.
وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف
بالحسن. ومنه قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى) وقوله (الذي أحسن كل شيء خلقه) كما نعلم
أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب
- فهذا أيضا قد يعلم بالعقل. وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة.
وأنه هل باب التحسين واحد في الخالق والمخلوق؟
المنفعة المطلقة والراجحة، والعبادات الصحيحة والباطلة
فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما
يعلم بالعقل الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود (الأول) متعلق بحب
القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي (الثاني) متعلق بتصديقه وتكذيبه
وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي،
والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع، والباطل بإزاء ما لا ينبغي
قصده ولا طلبه ولا عمله وهو غير النافع. والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة
والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب حصول
النعيم وزوال العذاب، وحصول الخير وزوال الشر، ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتا
دائما وقد يكون منقطعا لا سيما إذا كان زمنا يسيرا فيستعمل الباطل كثيرا بإزاء ما
لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود، كما يقال الموت حق والحياة باطل
وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصا أو راجحا كما تقدم القول فيه
فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أو الراجحة، وأما
ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضررا ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار والمضرة أحق باسم
الباطل من المنفعة. وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا
منفعة فيه بحال، فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل، ولذلك ما نهى
الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملا على منفعة خالصة أو راجحة. ولهذا صارت
أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق
ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب) الآية.
أخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له، وكذلك قوله تعالى (يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) وكذلك الإحباط
في مثل قوله (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) ولهذا تسميه الفقهاء "العقود".
والعبادات بعضها صحيح وبعضها باطل وهو ما لم يحصل به
مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه، ومن هذا قوله
(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) الآية وقوله (مثل ما ينفقون
في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) وقوله
(وقدمنا
إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها
باطلة ليست مطابقة ولا حقا كما أن الأعمال ليست نافعة.
وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير
مطابقة إن لم يكن فيها منفعة كقوله ﷺ " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع
" فيعود الحق فيما يتعلق بالإنسان إلى ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال
الله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها - إلى قوله - كذلك يضرب الله
الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب
الله الأمثال) وقال تعالى (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين
آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - إلى قوله - كذل يضرب الله للناس أمثالهم).
وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله
فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو
باطل، لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في
الآخرة. فالأول ظاهر وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص
المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله. وأما
في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا، لكن تلك اللذات
إذا كانت تعقب ضررا أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقاه، فهي باطلة أيضا، فثبت أن كل
عمل لا يرد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة ما.
وأما الكائنات فقد كانت معدومة منفية فثبت أن أصدق كلمة
قالها شاعر كلمة لبيد: " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".
وكما قال ﷺ " أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد "
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
"، وكل
مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله (كل شيء هالك إلا وجهه) إلا
ما أريد به وجهه وكل شيء معدوم إلا من جهته. هذا على قول، وأما القول الآخر وهو
المأثور عن طائفة من السلف وبه فسر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على
الجهمية والزنادقة قال أحمد: وأما قوله (كل شيء هالك إلا وجهه) وذلك أن الله أنزل
(كل من عليها فان) فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله
تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: كل شيء من الحيوان هالك -
يعني ميتا - إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت
" ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان.
وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع
والمصلحة والحكمة والصواب. وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة
والسفه والخطأ.
الاختلاف في أفعال الله وأفعال العباد من حيث الحسن
وعدمه
وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد
وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل (الذي أحسن كل شيء خلقه) وقال
تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) وقال تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها
وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).
وقال النبي ﷺ " إن الله جميل يحب الجمال " وهو
حكم عدل قال الله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما
بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)
وقال تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة
يضاعفها) وقال تعالى (وهو الحكيم الخبير) وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملا غير
مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه.
وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي
المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلوا عن أن يكون عملا من الأعمال، أو أن يكون ألما من
الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العامل
والمعالم، فالمعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها
شيء، وأن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق. أو تعوض بنفع لاحق،
وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون بل الجميع خلقه وهو يفعل ما
يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة
إليه. ويقول هؤلاء: إنه لا يتصور أن يفعل ظلما ولا سفها أصلا، بل لو فرض أنه فعل
أي شيء كان فعله حكمة وعدلا وحسنا، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد،
ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين.
والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا
يتضرر بمعصيتهم، لكن الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى
المحسن منه فائدة.
والآخرون يقولون: ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح
منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون: إذا أمر بالشيء فقد
أراده منا. لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا
غيره بشيء فإنه لا بد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة،
ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختيارا، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته
واختياره. وآخرون يقولون: الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلا، وقد بينت التوسط بين
هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره. والأولون يقولون: لا يأمر إلا بما فيه مصلحة
العباد، والآخرون يقولون: أمره لا يتوقف على المصلحة.
مقدمات مسلمات لتحقيق مسألة الحسن والقبح
وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات:
إحداها:
أنه ليس ما حسن منه يحسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا،
فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه
المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله
تعالى قطعا، ولو كان الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ:
ويقبح من سواك الفعل عندي... وتفعله فيحسن منك ذاكا
المقدمة الثانية: أن الحسن والقبح قد يكونان صفة
لأفعالنا وقد يدرك بعض ذلك بالعقل وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص،
فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهي عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة
لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من
جهة نفسه وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعا. ومن أنكر أن يكون للفعل
صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط،
فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر وما في الشريعة
من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة
الشريعة مقاصدها ومحاسنها.
المقدمة الثالثة: إن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء
قدير ومن جعل شيئا من الأعمال خارجا عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته
بخلاف ما عليه القدرية.
الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية والمحبة والرضا
المقدمة الرابعة: إن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده
منه إرادة شرعية دينية وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية فإثبات إرادته في الأمر
مطلقا خطأ ونفيها عن الأمر مطلقا خطأ وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، يريد الله ليخفف عنكم، ما يريد الله
ليجعل عليكم من حرج) وقال (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله
يجعل صدره ضيقا حرجا) وقال (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) وقال (ولو شاء
الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) وأمثال ذلك كثير.
المقدمة الخامسة: إن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية
والأمر الديني وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا
والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة. ومن قال إن هذه
الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات فإنه يستلزم
أحد أمرين: إما الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة
بدون مشيئته وإرادته. وهذا قول القدرية، أو يقول إنه لما كان مريدا لها شاءها فهو
محب راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات، وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله
تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب
واستحباب، وليس هذا المعنى ثابتا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده
الكفر، ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأحسن ما يعتذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: أن
المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونا، فكذلك أحبها ورضيها كونا، وهذا
فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع.
الفرق بين أمر الرب ونهيه لعباده، وأمرهم ونهيهم لعبيدهم
وخدمهم
فإن قيل: تقسيم الإرادة لا يعرف في حينا بل أن الأمر منه
بالشيء إما أن يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في
حقنا (فيقال) وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا
لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى
المأمور به، أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه
ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم،
والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن
أسأتم فلها) وقال (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها).
والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو
محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحسانا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه
صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه
كما قال (وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين) وقال تعالى (لقد من الله على المؤمنين
إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) وقال (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور
وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) فمن أنعم الله عليه مع
الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي) وهؤلاء هم المؤمنون. ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر
وعصى فقد شقي لما بدل نعمة الله كفرا كما قال (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله
كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة
لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو
نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى، كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات
وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد
ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوبا لله وإلا لم يكن محبوبا له وإن كان مرادا
له، وإرادته له تكوينا لمعنى آخر. فالتكوين غير التشريع.
ما تقتضيه المحبة والرضا من الملاءمة وضدهما من المنافرة
فإن قيل: المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين
المحب والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحا ولذة وسرورا، وكذلك البغض لا يكون
إلا عن منافرة بين المبغض والمبعض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضا ونحو
ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا
يضره كيف يبغضه؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم
حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى - أي في الحديث القدسي - "
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " فلهذا فسرت
المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر. فيقال: الجواب من وجهين:
أحدهما: الإلزام، وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة
بين المريد والمراد وملاءمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لا يحتاج إليه الحي لا
ينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض،
وإلا فما لم يتألم به الحي أصلا لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو
في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع
مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى
يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفي الآخر أولى
من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره
لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري
بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما
جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور أو أحد الأمرين لازم: إما
أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور.
الجواب الثاني: أن الذي يعلم قطعا هو أن الله قديم واجب الوجود
كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي
جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني
واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته. وإن
قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، ومعلوم
أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى
نفسه، إن عني به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن
خلقه، وهو غني بنفسه.
لا يقال: "إنه تعالى غني عن نفسه، أو أن احتياجه
إلى نفسه نقص"
وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج
إلى نفسه، وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان
سبحانه عليما يحب العلم، عفوا يحب العفو، جميلا يحب الجمال، نظيفا يحب النظافة،
طيبا يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات
المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثني بنفسه على نفسه،
والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه. فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب
في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه
عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده
التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال
النبي ﷺ للأسود بن سريع لما قال:
إنني حمدت ربي بمحامد فقال " إن ربك يحب الحمد
" وقال ﷺ " لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من
الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلوه له ولدا
وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم
" فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على
ما يؤذيه، وحبه ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من
صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن
يبلغوا نفعه فينفعوه.
وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله،
كما أنه إذا فرح ورضي بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي
مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته، فلم يفتقر إلى غيره ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل
أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية ونهاية الكمال والعزة.
وأما الإمكان لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث
فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه
الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا
الموضع.
نصوص الكتاب والسنة مشتملة على تقديس الله وإثبات كل
كمال له
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام
والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى
ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصا بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم
يكن فاعله، وإنه إذا كان كاملا بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملا بغيره ولا
مفتقرا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا
إن الله فقير ونحن أغنياء، سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) وهو سبحانه في
محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه
الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا
تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغني الذي لا يفتقر إلى سواه، (إن
كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه
يوم القيامة فردا).
فهذا الأصل العظيم وهو مسألة خلقه وأمره وما يتصل به من
صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة
بمسائل القدر ومسائل الشريعة. والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل
الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه.
وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسألة الصفات
الذاتية والفعلية، ومسألة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات
والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق.
المعطلة كذبوا بحق كثير جاء به الرسل
فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير
جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه من نفي الجسم والعرض، ونفي حلول الحوادث ونفي
الحاجة.
وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار ولكن ثبوتها يصح باعتبار
آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وفطرت
عليه الخلائق ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية. والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق