حذف 12. صفحة من مدونتي

12. صفحة تحذفهم با مفتري حسبي الله ونعم الوكيل

Translate

الخميس، 22 أغسطس 2024

ج3.النبوات لابن تيمية الجظء الثالث

 3.

وأما الاستدلال بالحوادث على المحدث فهي الطريقة المعروفة لكل أحد لكن تسمية هذه أعراضا هو تسمية القائلين بالجوهر الفرد مع أن الرازي توقف في آخر أمره فيه كما ذكر ذلك في نهاية العقول وذكر أيضا عن أبي الحسين البصري وأبي المعالي أنهما توقفا فيه والمقصود أن القائلين بالجوهر الفرد يقولون إنما أحدث أعراضا كجمع الجواهر وتفريقها فالمادة التي هي الجواهر المنفردة باقية عندهم بأعيانها ولكن أحدث صورا هي أعراض قائمة بهذه الجواهر وأما المتفلسفة فيقولون أحدث صورا في مواد باقية كما يقول هؤلاء لكن يقولون أحدث صورا هي جواهر في مادة هي جوهر وعندهم ثم مادة باقية بعينها والصور الجوهرية كصورة الماء والهواء والتراب والمولدات تعتقب عليها وهذه المادة عندهم جوهر عقلي وكذلك الصورة المجردة جوهر عقلي ولكن الجسم مركب من المادة والصورة ولهذا قسموا الموجودات فقالوا إما أن يكون الموجود حالا بغيره أو محلا أو مركبا من الحال والمحل أو لا هذا ولا هذا فالحال في غيره هو الصورة والمحل هو المادة والمركب منهما هو الجسم وما ليس كذلك إن كان متعلقا بالجسم فهو النفس والا فهو العقل وهذا التقسيم فيه خطأ كثير من وجوه ليس هذا موضعها إذ المقصود أنهم يقولون أيضا انه لم يحدث جسما قائما بنفسه بل إنما أحدث صورة في مادة باقية ولا ريب ان الأجسام بينها قدر مشترك في الطول والعرض والعمق وهو المقدار المجرد الذي لا يختص بجسم بعينه ولكن هذا المقدار المجرد هو في الذهن لا في الخارج كالعدد المجرد والسطح المجرد والنقطة المجردة وكالجسم التعليمي وهو الطويل العريض العميق الذي لا يختص بمادة بعينها فهذه المادة المشتركة التي أثبتوها هي في الذهن وليس بين الجسمين في الخارج شيء اشتركا فيه بعينه فهؤلاء جعلوا الأجسام مشتركة في جوهر عقلي وأولئك جعلوها مشتركة في الجواهر الحسية وهؤلاء قالوا اذا خلق كل شيء من شيء فانما أحدثت صورة مع أن المادة باقية بعينها لكن أفسدت صورة وكونت صورة ولهذا يقولون عما تحت الفلك عالم الكون والفساد ولهذا قال ابن رشد إن الأجسام المركبة من المادة والصورة هي في عالم الكون والفساد بخلاف الفلك فانه ليس مركبا من مادة وصورة عند الفلاسفة قال وإنما ذكر أنه مركب من هذا وهذا ابن سينا وهؤلاء وهؤلاء تحيروا في خلق الشيء من مادة كخلق الانسان من النطفة والحب من الحب والشجرة من النواة وظنوا أن هذا لا يكون إلا مع بقاء اصل تلك المادة إما الجواهر عند قوم وإما المادة المشتركة عند قوم وهم في الحقيقة ينكرون أن يخلق الله شيئا من شيء فانه عندهم لا يحدث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم أو جوهر عقلي عند قوم وكلاهما لم يخلق من مادة والمادة عندهم باقية بعينها لم يخلق ولن يخلق منها شيء وقد ذكروا في قوله أم خلقوا من غير شيء ثلاثة أمور قال ابن عباس والاكثرون أم خلقوا من غير خالق وهو الذي ذكره الخطابي وقال الزجاج وابن كيسان أم خلقوا عبثا وسدى فلا يبعثون ولا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون كما يقول فعلت هذا من غير شيء أي لغير علة وقيل أم خلقوا من غير مادة أي من غير أب وأم ثم من هؤلاء من قال فهم كالجماد ومنهم من قال كالسماوات ظنا منه أنها خلقت من غير مادة ذكر الأربعة أبو الفرج وذكر البغوي الوجهين الاولين والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر وهو أن من قال المادة الباقية بعينها وانما حدث عرض أو صورة وذلك لم يخلق من غيره ولكن أحدث في المادة الباقية فلا يكون الله خلق شيئا من شيء لان المادة عندهم لم تخلق أما المتفلسفة فعندهم المادة قديما أزلية باقية بعينها وأما المتكلمون فالجواهر عندهم موجودة وما زالت موجودة لكن من قال إنها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا يستدل على حدوثها بالدليل لا أن خلقها معلوم للناس فهو عندهم مما يستدل عليه بالأدلة الدقيقة الخفية مع أن ما يذكرونه منتهاه إلى أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو دليل باطل فلا دليل عندهم على حدوثها وإذا كانت لم تخلق اذ خلق الانسان بل هي باقية في الانسان والاعراض الحادثة لم تخلق من مادة فاذا خلق الانسان لم يخلق من شيء لا جواهره ولا أعراضه وعلى قولهم ما جعل الله من الماء كل شيء حي ولا خلق كل دابة من ماء ولا خلق آدم من تراب ولا ذريته من نطفة بل نفس الجواهر الترابية باقية بعينها لم تخلق حينئذ ولكن أحدث فيها أعراض أو صورة حادثة وتلك الأعراض ليست من التراب فلما خلق آدم لم يخلق شيء من تراب وكذلك النطفة جواهرها باقية إما الجواهر المنفردة وإما المادة والحادث هو عرض أو صورة في مادة ولا هذا ولا هذا خلق من نطفة وليس قولهم إنه لم يخلق من مادة معناه أن الخالق أبدعه لا من شيء وأنهم قصدوا بها تعظيم الخالق بل الانسان لا ريب أنه جوهر قائم بنفسه وعندهم ذلك القائم بنفسه ما زال موجودا لم يخلق اذ خلق الانسان والجوهر الحامل لصورته ما زال موجودا أيضا فلم يخلق عند هؤلاء إلا الأعراض وعند هؤلاء إلا صورة مجردة وكلاهما ليس هو الانسان بل صفة له أو صورة له هذا هو المخلوق عندهم بخلق الانسان فقط وقد قال تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا وقال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا فقد أمر الانسان أن يتذكر أن الله خلقه ولم يك شيئا والانسان اذا تذكر إنما يذكر أنه خلق من نطفة وعندهم ما زال جوهر الانسان شيئا وذلك الشيء باق وانما حدث أعراض لتلك الاشياء ومعلوم أن تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان فإن الإنسان مأمور منهي حي عليم قدير متكلم سميع بصير موصوف بالحركة والسكون وهذه صفات الجواهر والعرض لا يبقى زمانين فالمخلوق على قولهم لا يبقى زمانين بل يفنى عقب ما يخلق ولهذا اضطربوا في المعاد فان معرفة المعاد مبنيه على معرفة المبدأ والبعث مبني على الخلق فقال بعضهم هو تفريق تلك الاجزاء ثم جمعها وهي باقية بأعيانها وقال بعضهم بل يعدمها ويعدم الأعراض القائمة بها ثم يعيدهما وإذا أعادها فإنه يعيد تلك الجواهر التي كانت باقية إلى أن حصلت في هذا الانسان فلهذا اضطربوا لما قيل لهم فالانسان اذا أكله حيوان آخر فان أعيدت تلك الجواهر من الاول نقصت من الثاني وبالعكس أما على قول من يقول إنها تفرق ثم تجمع فقيل له تلك الجواهر ان جمعت للآكل نقصت من المأكول وإن أعيدت للمأكول نقصت من الآكل وأما الذي يقول تعدم ثم تعاد بأعيانها فقيل له أتعدم لما أكلها الآكل أم قبل أن يأكلها فإن كان بعد أن أن أكلها فإنها تعاد في الآكل فينقص المأكول وان كان قبل الاكل فالآكل لم يأكل إلا أعراضا لم يأكل جواهر فهذا مكابرة ثم إن المشهور أن الإنسان يبلى ويصير ترابا كما خلق من تراب وبذلك أخبر الله فإن قيل إنه إذا صار ترابا عدمت تلك الجواهر فهو لما خلق من تراب عدمت أيضا تلك الجواهر فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات إلا إذا صار ترابا تناقض بين ويلزمهم عليه الحيوان المأكول وغير ذلك وكأن هذا الضلال أصل ضلالهم في تصور الخلق الاول والنشأة الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها ويستدلوا بها على قدرته على الثانية قال تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكرون والفلاسفة أجود تصورا في هذا الموضع حيث قالوا تفسد الصورة الأولى وهي جوهر وتحدث صورة أخرى فإن هذا أجود من أن يقال يزول عرض ويحدث عرض ولكن الفلاسفة غلطوا في توهمهم أن هناك مادة باقية بعينها وإنما تفسد صورتها والحق أن المادة التي منها يخلق الثاني تفسد وتستحيل وتفنى وتتلاشى وينشئ الله الثاني ويبتدئه ويخلق من غير أن يبقى من الاول شيء لا مادة ولا صورة ولا جوهر ولا عرض فاذا خلق الله الانسان من المني فالمني استحال وصار علقة والعلقة استحالت وصارت مضغة والمضغة استحالت الى عظام وغير عظام والانسان بعد أن خلق خلق كله جواهره وأعراضه وابتدأه الله ابتداء كما قال تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وقال تعالى أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فالانسان مخلوق خلق الله جواهره وأعراضه كلها من المني من مادة استحالت ليست باقية بعد خلقه كما تقول المتفلسفة ان هناك مادة باقية ولفظ المادة مشترك فالجمهور يريدون به ما منه خلق وهو أصله وعنصره وهؤلاء يريدون بالمادة جوهرا باقيا وهو محل للصورة الجوهرية فلم يخلق عندهم الانسان من مادة بل المادة باقية وأحدث صورته فيها كما أن الصور الصناعية كصورة الخاتم والسرير والثياب والبيوت وغير ذلك إنما أحدث الصانع صورته العرضية في مادة لم تزل موجودة ولم تفسد لكن حولت من صفة الى صفة فهكذا تقول الجهمية المتكلمة المبتدعة أن الله أحدث صورة عرضية في مادة باقية لم تفسد فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم والسرير والثوب والمتفلسفة تقول أيضا أن مادته باقية لم تفسد كمادة الصورة الصناعية لكن يقولون أنه أحدث صورة جوهرية وهم قد يخلطون ولا يفرقون بين الصور العرضية والجوهرية فإنهم يسمون صورة الانسان صورة في مادة وصورة الخاتم صورة في مادة فيكون خلق الانسان عند هؤلاء وهؤلاء من جنس ما يحدثه الناس في الصور من المواد ويكون خلقه بمنزلة تركيب الحائط من اللبن ولهذا قال من قال منهم إنه يستغني عن الخالق بعد الخلق كما يستغني الحائط عن البناء والأشعرية عندهم أن البناء والخياط وسائر أهل الصنائع لم يحدثوا في تلك المواد شيئا فإن القدرة المحدثة عندهم لا تتعلق إلا بما هو في محلها لا خارجا عن محلها ويقولون ان تلك المصنوعات كلها مخلوقة لله ليس للانسان فيها صنع وخلق الله لها على أصلهم هو إحداث أعراض فيها كما تقدم فينكرون ما يصنعه الانسان وهو في الحقيقة مثل ما يجعلونه مخلوقا للرحمن وهم لا يشهدون للرحمن إحداثا ولا إفناء بل إنما يحدث عندهم الأعراض وهي تفنى بأنفسها لا بافنائه وهي تفنى عقب إحداثها وهذا لا يعقل وهم حائرون إذا أراد أن يعدم الأجسام كيف يعدمها والمشهور عندهم أنها تعدم بأنفسها اذا لم يخلق لها أعراضا فالعرض يفنى عندهم بنفسه والجوهر يفنى بنفسه إذا لم يخلق له عرض هذا في الإفناء وأما في الأحداث فانهم إستدلوا على حدوثها بدليل باطل لو كان صحيحا للزم حدوث كل شيء من غير محدث فحقيقة أصل أهل الكلام المتبعين للجهمية أنه لا يحدث شيئا ولا يفنى شيئا بل يحدث كل شيء بنفسه ويفنى بنفسه ويلزمهم جواز أن يكون للرب محدثا أيضا بلا محدث وهذه الاصول هي أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب والسنة والمعقولات الصريحة وهي في الحقيقة لا عقل ولا سمع كما حكى الله عمن قال لو كنا نسمع أو نعفل ما كنا في أصحاب السعير والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه وإفناءه لما يفنيه كالمني الذي استحال وفنى وتلاشى وأحدث منه هذا الانسان وكالحبة التي فنيت واستحالت وأحدث منها الزرع وكالهواء الذي استحال وفنى وحدث منه النار أو الماء وكالنار التي استحالت وحدث منها الدخان فهو سبحانه دائما يحدث ما يحدثه ويكونه ويفني ما يفنيه ويعدمه والانسان إذا مات وصار ترابا فني وعدم وكذلك سائر ما على الارض كما قال كل من عليها فان ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداء من التراب ويخلقه خلقا جديدا ولكن للنشأة الثانية أحكام وصفات ليست للأولى فمعرفة الانسان بالخلق الاول وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان وما يخلقه من الشجر والنبات والثمار وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك هو أصل لمعرفته بالخلق والبعث والمبدأ والمعاد وان لم يعرف أن الله يخلقه كله من المني جواهره وأعراضه وإلا فما عرف أن الله خلقه ومن ظن أن جواهره لم يخلقها اذ خلقه بل جواهر المني وجواهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه لم يخلقها أو أن مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذ خلقه بل هي باقية أزلية أبدية لم يكن قد عرف أنه مخلوق محدث والعلماء ينكرون على من يقول أن روح الانسان قديمة أزلية من المنتسبين إلى الإسلام وهؤلاء الذين يقولون إن مادة جسمه باقية بعينها وهي أزلية أبدية أبعد عن العقل والنقل منهم وأولئك أنكروا عليهم حيث قالوا الانسان مركب من قديم ومحدث من لاهوت قديم وناسوت محدث أو هؤلاء جعلوه مركبا من مادة قديمة أزلية وصورة محدثة وجعلوا القديم الأزلي فيه أخس ما فيه وهو المادة فإنها عندهم أخس الموجودات وهي قديمة أزلية وأولئك جعلوا القديم الأزلي أشرف ما فيه وهي النفس الناطقة وكلا الطائفتين وإن كان ضالا فالشريف العالي أولى بالقدم من الخسيس السافل وهذا أولى بالحدوث

وأما المتكلمة الجهمية فهم لا يتصورون ما يشهدونه من حدوث هذه الجواهر في جواهر أخر من مادة ثم يدعون أن الجواهر جميعها أبدعت ابتداء لا من شيء وهم لم يعرفوا قط جوهرا أحدث لا من شيء كما لم يعرفوا عرضا أحدث لا في محل وحقيقة قولهم أن الله لا يحدث شيئا من شيء لا جوهرا ولا عرضا فان الجواهر كلها أحدثت لا من شيء والأعراض كذلك والمشهود المعلوم للناس أنما هو إحداثه لما يحدثه من غير مادة ولهذا قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ولم يقل خلقتك لا من شيء وقال تعالى والله خلق كل دابة من ماء ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء وقال تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي وهذا هو القدرة التي تبهر العقول وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الاول ويفنيه ويلاشيه ويحدث شيئا آخر كما قال فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ويخرج الشجرة الحية والسنبلة الحية من النواة والحبة الميتة ويخرج النواة الميتة والحبة الميتة من الشجرة والسنبلة الحية كما يخرج الانسان الحي من النطفة الميتة والنطفة الميتة من الانسان الحي وعندهم لا يخرج حيا من ميت ولا ميتا من حي فان الحي والميت إنما هو الجوهر القائم بنفسه فان الحياة عرض لا يقوم إلا بجوهر والعرض نفسه لا يقوم بعرض آخر وان كان العرض يوصف بأنه حي كما يقال قد أحييت العلم والايمان وأحييت الدين وأحييت السنة والعدل كما يقال أمات البدعة فهؤلاء عندهم لا يخرج جوهرا من جوهر ولا عرضا من عرض فلا يخرج حيا من ميت ولا ميتا من حي بل الجواهر التي كانت في الميت هي بعينها باقية كما كانت ولكن أحدث فيها حياة لم تكن وتلك الحياة لم تخرج من ميت فما أخرج عندهم حي من ميت ولا ميت من حي ولهذا ينكرون أن يقلب الله جنسا الى جنس آخر ويقولون الجواهر كلها جنس واحد فإذا خلق النطفة انسانا لم يقلب عندهم جنسا الى جنس بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت وخاصية الخلق انما هي بقلب جنس الى جنس وهذا لا يقدر عليه إلا الله كما قال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز ولا ريب أن النخلة ما هي من جنس النواة ولا السنبلة من جنس الحبة ولا الانسان من جنس المني ولا المني من جني الانسان وهو يخرج هذا من هذا وهذا من هذا فيخرج كل جنس من جنس آخر بعيد عن مماثلته وهذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وهو سبحانه إذا جعل الابيض أسود أعدم ذلك البياض وجعل موضعه السواد لا أن الأجسام تعدم تلك المادة فتحيلها وتلاشيها وتجعل منها هذا المخلوق الجديد ويخلق الضد من ضده كما جعل من الشجر الاخضر نارا فاذا حك الاخضر بالأخضر سخن ما يسخنه بالحركة حتى ينقلب نفس الاخضر فيصير نارا وعلى قولهم ما جعل فيه نارا بل تلك الجواهر باقية بعينها وأحدث فيها عرض لم يكن وخلق الشيء من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى كما وصف نفسه بذلك في قوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ولهذا قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وقال ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين الى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ولهذا امتنع اللعين كما قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا وقال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون وأيضا فكون الشيء مخلوقا من مادة وعنصر أبلغ في العبودية من كونه خلق لا من شيء وأبعد عن مشابهة الربوبية فإن الرب هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فليس له أصل وجد منه ولا فرع يحصل عنه فاذا كان المخلوق له أصل وجد منه كان بمنزلة الولد له وإذا خلق له شيء آخر كان بمنزلة الوالد وإذا كان والدا ومولودا كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية فانه خرج من غيره ويخرج منه غيره لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة كما قال تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين وقال تعالى فلينظر الانسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر وفي المسند عن بشر ابن جحاش قال بصق رسول الله ﷺ في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال يقول الله تعالى ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللارض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق واني أوان الصدقة وكذلك إذا خلق في محل مظلم وضيق كما خلق الانسان في ظلمات ثلاث كان أبلغ في قدرة القادر وأدل على عبودية الانسان وذله لربه وحاجته اليه وقد يقول المعير للرجل مالك أصل ولا فصل ولكن الانسان أصله التراب وفصله الماء المهين ولهذا لما خلق المسيح من غير أب وقعت به الشبهة لطائفة وقالوا انه ابن الله مع أنه لم يخلق إلا من مادة أمه ومن الروح التي نفخ فيها كما قال تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال تعالى أيضا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فما خلق من غير مادة تكون كالأب له قد يظن فيه أنه ابن الله وأن الله خلقه من ذاته فلهذا كانت الانبياء مخلوقة من مادة لها أصول ومنها فروع لها والد ومولود والأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وحدوث الشيء لا من مادة قد يشبه حدوثه من غير رب خالق وقد يظن أنه حدث من ذات الرب كما قيل مثل ذلك في المسيح والملائكة انها بنات الله لما لم يكن لها أب مع أنها مخلوقة من مادة كما ثبت في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة أن النبي ﷺ قال خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ولما ظن طائفة أنها لم تخلق من مادة ظنوا أنها قديمة أزلية وأيضا فالدليل الذي احتج به كثير من الناس على أن كل حادث لا يحدث إلا من شيء أو في شيء فان كان عرضا لا يحدث إلا في محل وان كان عينا قائمة بنفسها لم تحدث إلا من مادة فان الحادث إنما يحدث إذا كان حدوثه ممكنا وكان يقبل الوجود والعدم فهو مسبوق بامكان الحدوث وجوازه فلا بد له من محل يقوم به هذا الامكان والجواز وقد تنازعوا في هذا هل الامكان صفة خارجية لا بد لها من محل أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن والتحقيق أنه نوعان فالامكان الذهني وهو تجويز الشيء أو عدم العلم بامتناعه محله الذهن والامكان الخارجي المتعلق بالفاعل أو المحل مثل أن تقول يمكن القادر أن يفعل والمحل مثل أن تقول هذه الأرض يمكن أن تزرع وهذه المرأة يمكن أن تحبل وهذا لا بد له من محل خارجي فاذا قيل عن الرب يمكن أن يخلق فمعناه أنه يقدر على ذلك ويتمكن منه وهذه صفة قائمة به وإذا قيل يمكن أن يحدث حادث فان قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث فهو ممتنع وإذا كان الحدوث لا بد له من سبب حادث فذاك السبب ان كان قائما بذات الرب فذاته قديمة أزلية واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئة أو تمام تمكن ونحو ذلك لا يكون إلا لسبب قد أحدثه قبل هذا في غيره فلا يحدث حادث مباين إلا مسبوقا بحادث مباين له فالحدوث مسبوق بامكانه ولا بد لامكانه من محل ولهذا لم يذكر الله قط أنه أحدث شيئا إلا من شيء والذي يقول إن جنس الحوادث حدثت لا من شيء هو كقولهم إنها حدثت بلا سبب حادث مع قولهم إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد سبب بل حقيقة قولهم إن الرب صار قادرا بعد أن لم يكن من غير تجدد شيء يوجب ذلك وهذه الامور كلها من أقوال الجهمية أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم وهو بناء على قولهم انه تمتنع حوادث لا أول لها وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع وأخبرت به الرسل كما غلطوا في المعقولات فكل واحد مما يسمى شرعا وعقلا وسمعا قد وقع فيه اشتباه فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة هذا هو الشرع المنزل وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه ويطلق على ما يضيفه بعض الناس الى الشرع إما بالكذب والافتراء وإما بالتأويل والغلط وهذا شرع مبدل لا منزل ولا يجب بل ولا يجوز اتباعه وكذلك لفظ السنة فان السنة التي يجب اتباعها هي سنة رسول الله ﷺ والسنة تذكر في الاصول والاعتقادات وتذكر في الأعمال والعبادات وكلاهما يدخل فيما أخبر به وأمر به فما أخبر به وجب تصديقه فيه وما أوجبه وأمر به وجبت طاعته فيه ثم كثير من الناس يضيف إلى السنة ما أدخله بعض الناس فيها إما بالكذب وإما بالتأويل مثل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة واستدلالات بأقواله على ما لا تدل عليه ومثل أقوال أحدثها قوم انتسبوا إلى السنة في بعض الأمور مثل إثبات الصفات والقدر فإن المنتسبين لذلك يضافون إلى السنة لأن نفاة الصفات والقدر مبتدعة وكذلك حب الخلفاء الراشدين وموالاتهم يضاف أهله إلى السنة لان الطاعنين فيهم أهل بدعة ومثل الاستدلال بالنصوص على موارد النزاع فإن أهل ذلك يضافون إلى السنة لكونهم يقصدون اتباع القرآن والحديث والمخالفون لذلك يردون الأخبار الصحيحة أو لا يحتجون بالقرآن مبتدعون ثم قد يقول المضافون إلى السنة أشياء ليست من السنة مثل أحاديث كثيرة يروونها في فضائل بعض الصحابة وهي كذب ومثل نفي الحكمة والأسباب في مسائل القدر ومثل كلامهم في الأجسام والأعراض وتناهي الحوادث ونحو ذلك مما لم يأخذوه عن الرسول فهذا ليس من السنة وان كان أهلها وافقوا السنة في مواضع خالفهم فيها من ينازعهم في هذه المسائل فلا يجب اذا كانوا أصابوا حيث وافقوا السنة أن يصيبوا حيث لم يوافقوها وكذلك مسمى العقل فان مسمى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية لكن لما أحدث قوم من الكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة بل وهو في نفس الامر مخالف للمعقول وصاروا يسمون ذلك عقليات وأصول دين وكلاما في أصول الدين صار من عرف أنهم مبتدعة ضلال في ذلك ينفر عن جنس المعقول والرأي والقياس والكلام والجدل فاذا رأى من يتكلم بهذا الجنس اعتقده مبتدعا مبطلا كما أن هؤلاء لما رأوا ان جنس المنتسبين إلى السنة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع وخالفوا فيها صريح المعقول وهم يقولون أن السنة جاءت بذلك صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يستدل في الاصول بالشرع والسنة ويسمونهم حشوية وعامة وكل من هؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم ثم هؤلاء قبلوا من مسمى الشرع والسنة عندهم محموده ومذمومه وخالفوا مسمى العقل محموده ومذمومه وأولئك قبلوا مسمى العقل عندهم محموده ومذمومه وخالفوا مسمى الشرع محموده ومذمومه فيجب البيان والتفصيل والاستفسار وبيان الفرقان بين الحق والباطل فان ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزل والسنة الغراء وهو المعقول الحق وهو الكلام الصدق وهو الجدل بالتي هي أحسن ويوجب رد ما أدخل في الشرع والسنة وليس منها ورد ما سمي معقولا وهو باطل وسمي كلاما صدقا وهو كذب وسمي جدلا بالتي هي أحسن وهو جدل بالباطل بغير علم ولهذا حصل من الذين لبسوا الحق بالباطل تبديل لما بدلوه من الدين وتحريف الكلم عن مواضعه ومضاهاة لأهل الكتاب مما ذمهم الله عليه والبخاري في أول كتاب خلق أفعال العباد ذكر الرد على المعطلة الذين يبدلون كلام الله من الجهمية وذكر من كلام السلف والأئمة فيهم ما عرف به مقصودهم

والتبديل نوعان أحدهما ان يناقضوا خبره والثاني أن يناقضوا أمره فان الله بعثه بالهدى ودين الحق وهو صادق فيما أخبر به عن الله آمر بما أمر الله به كما قال من يطع الرسول فقد أطاع الله وأهل التبديل الذين يضيفون الى دينه وشرعه ما ليس منه وهم أهل الشرع المبدل تارة يناقضونه في خبره فينفون ما أثبته أو يثبتون ما نفاه كالجهمية الذين ينفون ما أثبته من صفات الله وأسمائه والقدرية الذين ينفون ما أثبته من قدر الله ومشيئته وخلقه وقدرته والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله وحكمته ورحمته ويثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه وأمثال ذلك ومسسائل أصول الدين عامتها من هذا الباب ثم إنهم ايضا يوجبون مالم يوجبه بل حرمه ويحرمون ما لم يحرمه بل أوجبه فيوجبون اعتقاد هذه الاقوال والمذاهب المناقضة لخبره وموالاة أملها ومعاداة من خالفها ويوجبون النظر المعين في طريقهم الذي أحدثوه كما أوجبوا النظر في دليل الاعراض الذي استدلوا به على حدوث الأجسام وقالوا يجب على كل مكلف أن ينظر فيه ليحصل له العلم بإثبات الصانع قالوا لان معرفة الله واجبة ولا طريق اليها الا هذا النظر وهذا الدليل ولما علم كثير من موافقيهم أن الاستدلال بهذا الدليل لم يوجه الرسول خالفوهم في إيجابهم مع موافقتهم لهم على صحته والتحقيق ما عليه السلف أنه ليس بواجب أمرا ولا هو صحيح خبرا بل هو باطل منهي عنه شرعا فان الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل بل ينهى عن ذلك لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنه حق وان الدين لا يقوم الا على هذا الاصل الذي أصلوه كما أن طوائف من أهل العبادة والزهد والارادة والمحبة والتصوف سلكوا طرقا ظنوا أنه لا يوصل الى الله إلا بها ثم منهم من يوجبها ويذم من لم يسلكها ومنهم من لم ير أن سالكيها أفضل من غيرهم ويوسع الرحمة لانه قد علم أن الرسول والصحابة لم يأمروا بها الناس مع اعتقادهم أنها طرق صحيحة موصلة الى رضوان الله وهي عند التحقيق طرق مضلة إنما توصل الى رضى الشيطان وسخط الرحمن كالعبادات التي ابتدعها ضلال أهل الكتاب والمشركين وخالفوا بها دين المرسلين فهؤلاء في الاحوال البدعية وأولئك في الاقوال البدعية والقول الحق هو القرآن والحال الحق هو الايمان كما قال جندب وابن عمر تعلمنا الايمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها

فالناس أربعة أصناف صاحب قول قرآني وحال ايماني فهم أفضل الخلق وصاحب قول قرآني وحال ليس بايماني وصاحب حال ايماني وليس له قول ومن ليس له لا قول قرآني ولا حال ايماني وكثير من المنتسبين الى القول والكلام والعلم والنظر والفقه والاستدلال ابتدعوا أقوالا تخالف القرآن وكثير من المنتسبين الى العمل والعبادة والارادة والمحبة وحسن الخلق والمجاهدة ابتدعوا أحوالا وأعمالا تخالف الايمان وصار مع كل طائفة نوع من الحق الذي جاء به الرسول لكن ملبوس بغيره وصار كثير من الطائفتين ينكر ما عليه الأخرى مطلقا كما قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وفي كل من الطائفتين شبه من أحدى الامتين ففي المنتسبين الى العلم اذا لم يوافقوا العلم النبوي ويعملوا به شبه من اليهود وفي أهل العمل اذا لم يوافقوا العمل الشرعي ويعملوا بعلم شبه من النصارى وصار كثير من أهل الكلام والرأي ينكرون جنس محبة الله وارادته كما صار كثير من أهل الزهد والتصوف ينكر جنس العلم والكلام والنظر وأولئك الذين أنكروا محبة الله وإرادته بنوا ذلك على أصل لهم للقدرية المجبرة والنافية وهو أن المحبة والارادة والرضا والمشيئة شيء واحد ولا يتعلق ذلك إلا بمعدوم وهو ارادة الفاعل أن يفعل مالم يكن فعله فاعتقدوا أن المحبة والارادة لا تتعلق إلا بمعدوم فالموجود لا يحب ولا يراد والقديم الأزلي لا يحب ولا يراد والباقي لا يحب ولا يراد فانكروا أن يكون الله محبوبا أو مرادا وهم لانكار كونه يحب أبلغ وأبلغ فلا يثبتون إلا مشيئته أن يخلق فقط وهي لا تتعلق إلا بمعدوم فأما أن يحب موجودا من خلقه فهذا باطل عند الطائفتين لكن المجبرة يقولون محبته هي مشيئته وقد شاء خلق كل شيء فهو يحب كل شيء والنفاة يقولون محبته هي إرادته إثابة المطيعين وهي مشيئة خاصة والذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الامة وعليه مشايخ المعرفة وعموم المسلمين أن الله يحب ويحب كما نطق بذلك الكتاب والسنة في مثل قوله يحبهم ويحبونه ومثل قوله والذين آمنوا أشد حبا لله وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله بل لا شيء يستحق أن يحب لذاته محبة مطلقة إلا الله وحده وهذا من معنى كونه معبودا فحيث جاء القرآن بالامر بالعبادة والثناء على أهلها أو على المنيبين الى الله والتوابين اليه أو الأوابين أو المطمئنين بذكره أو المحبين له ونحو ذلك فهذا كله يتضمن محبته وما لا يحب ممتنع كونه معبودا ومألوها ومطمأنا بذكره ومن أطيع لعوض يؤخذ منه أو لدفع ضرره فهذا ليس بمعبود ولا إله بل قد يكون الشخص كافرا وظالما يبغض ويلعن ومع هذا يعمل معه عامل بعوض فمن جعل العمل لله لا يكون إلا لذلك فلم يثبت الرب إلها معبودا ولا ربا محمودا وهو حقيقة قول النفاة من الجهمية والقدرية النافية والمثبتة والله سبحانه وتعالى رغب في عبادته والعمل له بما ذكره من الوعد ورهب من الكفر به والشرك بما ذكره من الوعيد وهو حق لكنه لم يقل ان العابد لله والعامل له لا يحصل له إلا ما ذكر بل وقد قال تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أدن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتهم عليه اقرءوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقد ثبت في الحديث الصحيح عن صهيب عن النبي ﷺ قال يقول الله يا أهل الجنة ان لكم عندي موعدا أريد أن أنجزكموه فيقولون ما هو ألم تنضر وجوهنا وتثقل موازيننا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه وهي الزيادة وفي الحديث الذي رواه النسائي لما صلى عمار فأوجز وقال دعوت في الصلاة بدعاء سمعته من النبي ﷺ اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك والشوق الى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين وروى نحوا هذا من وجه آخر فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لم يعط أهل الجنة أحب إليهم من النظر اليه وسن أن يدعى بلذة النظر الى وجهه الكريم وأهل الجنة قد تنعموا من أنواع النعيم بالمخلوقات بما هو غاية النعيم فلما كان نظرهم إليه أحب اليهم من كل أنواع النعيم علم أن لذة النظر إليه أعظم عند أهل الجنة من جميع أنواع اللذات والجنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فما لذت أعينهم باعظم من لذتها بالنظر اليه واللذة تحصل بادراك المحبوب فلو لم يكن أحب اليهم من كل شيء ما كان النظر اليه أحب اليهم من كل شيء وكانت لذته أعظم من كل لذة والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالجنة وهي اسم لدار فيها جميع أنواع اللذات المتعلقة بالمخلوق وبالخالق كما أن النار اسم لدار فيها أنواع الآلام لكن غلط من ظن أن التنعيم بالنظر اليه ليس من نعيم أهل الجنة وصار هؤلاء حزبين حزبا أنكروا التنعيم بالنظر اليه وهم المنكرون المحبة قال أبو المعالي ونحوه ممن ينكر محبته إنهم اذا رأوه لم يلتذوا بنفس النظر بل يخلق لهم لذة ببعض المخلوقات مع النظر وكذلك قال من شاركهم في التجهم من أهل الوحدة كابن عربي قال ما التذ عارف بمشاهدة قط وادعى أبو المعالي أن إنكار محبته من أسرار التوحيد وهو من أسرار توحيد الجهمية المعطلة المبدلة وحكى عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول أسألك لذة النظر الى وجهك الكريم فقال له هب أن له وجها أله وجه يلتذ بالنظر اليه وهذا بناء على هذا الاصل فانه وشيخه أبا يعلى ونحوهما وافقوا الجهمية في إنكار أن يكون الله محبوبا واتبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني ونحوه ممن ينكر محبة الله وجعل القول باثباتها قول الحلولية والجواب الثاني أن طائفة من الصوفية والعباد شاركوا هؤلاء في أن مسمى الجنة لا يدخل فيه النظر الى الله وهؤلاء لهم نصيب من محبة الله تعالى والتلذذ بعبادته وعندهم نصيب من الخوف والشوق والغرام فلما ظنوا أن الجنة لا يدخل فيها النظر اليه صاروا يستخفون بمسمى الجنة ويقول أحدهم ما عبدتك شوقا الى جنتك ولا خوفا من نارك وهم غلطوا من وجهين أحدهما أن ما يطلبونه من النظر اليه والتمتع بذكره ومشاهدته كل ذلك في الجنة

الثاني أن الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياما أو القي في بعض عذابها طار عقله وخرج من قلبه كل محبة ولهذا قال سمنون

وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فامتحني

ابتلى بعسر البول فصار يطوف على المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب وأبو سليمان لما قال قد أعطيت من الرضا نصيبا لو ألقاني في النار لكنت راضيا ذكر أنه ابتلى بمرض فقال ان لم تعافني وإلا كفرت أو نحو هذا والفضيل بن عياض إبتلي بعسر البول فقال بحبي لك إلا فرجت عني فبذل حبه في عسر البول فلا طاقة لمخلوق بعذاب الخالق ولا غنى به عن رحمته وقد قال النبي ﷺ لرجل ما تدعو في صلاتك قال أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن ودخل على أعرابي قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء قال كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخره فعجله لي في الدنيا فقال سبحان الله انك لا تستطيعه ولا تطيقه هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والعدوان في الارادة والعبادة والعمل حصل من إعراضهم عن العلم الشرعي واتباع الرسول وقد قال تعال قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قال بعضهم ليس الشأن في أن تحبه الشأن في أن يكون هو يحبك وهو إنما يحب من اتبع الرسول وإلا فالمشركون وأهل الكتاب يدعون أنهم يحبونه وأولئك غلطوا بنفي محبته وهؤلاء أثبتوا محبة شركية لم يثبتوا محبة توحيدية خالصة وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله

فالأقسام ثلاثة أولئك معطلة للمحبة وحقيقة قولهم تعطيل العبادة مطلقا وهؤلاء مشركون في المحبة فهم مشركون في العبادة أولئك مستكبرون عن عبادته والكبر لليهود وهؤلاء مشركون في عبادته والشرك للنصارى وكل واحد من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين بل الاسلام هو الاستسلام لله وحده ولفظ الاسلام يتضمن الاسلام ويتضمن إخلاصه لله وقد ذكر ذلك غير واحد حتى أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره ومن المفسرين من يجعلهما قولين كما يذكر طائفة منهم البغوي أن المسلم هو المستسلم لله وقيل هو المخلص والتحقيق أن المسلم يجمع هذا وهذا فمن لم يستسلم له لم يكن مسلما ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلما ومن استسلم له وحده فهو المسلم كما في القرآن بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه وأمره ونهيه فيتناول فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين قال ابن أبي حاتم حدثنا عصام بن وراد حدثنا آدم عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله بلى من أسلم وجهه لله يقول من أخلص لله قال ابن أبي حاتم وروى عن الربيع نحو ذلك وقال ذكر عن يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير من أسلم وجهه لله من أسلم أخلص وجهه قال دينه وقال أبو الفرج أسلم بمعنى أخلص وفي الوجه قولان أحدهما أنه الدين والثاني العمل وقال البغوي من أسلم وجهه لله أخلص دينه لله وقيل أخلص عبادته لله وقيل خضع وتواضع لله وأصل الاسلام الاستسلام والخضوع وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه وهو محسن في عمله قيل مؤمن وقيل مخلص قلت قول من قال خضع وتواضع لربه هو داخل في قول من قال أخلص دينه أو عمله أو عبادته لله فان هذا إنما يكون اذا خضع له وتواضع له دون غيره فان العبادة والدين والعمل له لا يكون الا مع الخضوع له والتواضع وهو مستلزم لذلك ولكن أولئك ذكروا مع هذا أن يكون هذا الاسلام لله وحده فذكروا المعنيين الاستلزام وأن يكون لله وقول من قال خضع وتواضع لله يتضمن أيضا أنه أخلص عبادته ودينه لله فان ذلك يتضمن الخضوع والتواضع لله دون غيره وأما ذكر التوجه فقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وتبين أن الله ذكر إسلام الوجه له في قوله فأقم وجهك للدين وذكر توجيه الوجه له في قوله إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض لان الوجه إنما يتوجه الى حيث توجه القلب والقلب هو الملك فاذا توجه الوجه نحو جهة كان القلب متوجها اليها ولا يمكن الوجه أن يتوجه بدون القلب فكان إسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزما لاسلام القلب وإقامته وتوجيهه وذلك يستلزم اسلام كله لله وتوجيه كله لله وإقامة كله لله وبسط الكلام على ما يناسب ذلك

وهذا حقيقة دين الاسلام لكن الذين أنكروا ذلك لهم شبهتان إحداهما أن المحبة تقتضي المناسبة قالوا وهي منتفية فلا مناسبة بين المحدث والقديم فيقال لهم هذا كلام مجمل تعنون بالمناسبة الولادة أو المماثلة ونحو ذلك مما يجب تنزيه الرب عنه فان الشيء ينسب إلى أصله بأنه ابن فلان والى فرعه بأنه ابو فلان وإلى نظيره بأنه مثل فلان ولما سأل المشركون النبي ﷺ عن نسب ربه أنزل الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فلم يخرج من شيء ولا يخرج منه شيء ولا له مثل فان عنيتم هذا لم نسلم أن المحبة لا بد فيها من هذا وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متصفا بمعنى يحبه المحب فهذا لازم للمحبة والرب متصف بكل صفة تحب وكل ما يحب فانما هو منه فهو أحق بالمحبة من كل محبوب وإذا كان الانسان يحب الملائكة وهم من غير جنسه لما اتصفوا به من الصفات الحميدة فالسبوح القدوس رب الملائكة والروح الذي كل ما اتصفت به الملائكة وغيرهم فهو من جوده وإحسانه وهو العزيز الرحيم اذ كان المخلوق كثيرا ما يتصف بالعزة دون الرحمة أو تكون فيه رحمة بلا عزة وهو سبحانه العزيز الرحيم الغفور الودود المجيد الودود فعول من الود وقال شعيب إن ربي رحيم ودود وقال تعالى وهو الغفور الودود فقرنه بالرحيم في موضع وبالغفور في موضع قال أبو بكر ابن الانباري الودود معناه المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده ودا وودا وودا ويقال وددت الرجل ودادا وودادا وودادة وقال الخطابي هو اسم مأخوذ من الود وفيه وجهان أحدهما أن يكون فعولا في محل مفعول كما قيل رجل هيوب بمعنى مهيب وفرس ركوب بمعنى مركوب والله سبحانه وتعالى مودود في قلوب أوليائه لما يعرفونه من إحسانه اليهم والوجه الآخر أن يكون بمعنى الود أي أنه يود عباده الصالحين بمعنى أنه يرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ويكون معناه أن يوددهم إلى خلقه كقوله سيجعل لهم الرحمن ودا قلت قوله سيجعل لهم الرحمن ودا فسروها بأنه يحبهم ويحببهم الى عباده كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وقال في البغض مثل ذلك وقال عبد ابن حميد أنبأنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم ويحببهم ورواه ابن أبي حاتم أيضا وقال عبد أخبرني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم ويحببهم الى المؤمنين أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن مجاهد عن ابن عباس سيجعل لهم الرحمن ودا قال محبة وهذا فيه إثبات حبه لهم بعد أعمالهم بقوله سيجعل لهم الرحمن ودا وهو نظير قوله قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فهو يحبهم إذا اتبعوا الرسول ونظير قوله في الحديث الصحيح ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وكذلك قوله وأحسنوا ان الله يحب المحسنين ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ان الله يحب المتقين إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وهذه الآيات وأشباهها تقتضي أن الله يحب أصحاب هذه الأعمال فهو يحب التوابين وإنما يكونون توابين بعد الذنب ففي هذه الحال يحبهم وهذا مبني على الصفات الاختيارية فمن نفاها رد هذا كله ولهم قولان أحدهما أن المحبة قديمة فهو يحبهم في الأزل إذا علم أنهم يموتون على حال مرضية ويقولون أن الله يحب الكفار في حال كفرهم اذا علم أنهم يموتون على الايمان ويبغض المؤمن إذا علم أنه يرتد هذا قول ابن كلاب ومن تبعه ثم منهم من يفسر المحبة بالارادة ومنهم من يقول هي صفة زائدة على الارادة والقول الثاني يجعلون هذا من باب الفعل فالمحبة عندهم إحسانه اليهم والاحسان عندهم ليس قائما به بل بائن عنه والكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة والأدلة العقلية إنما تدل على القول الأول كما قد بسط في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا ذكر اسمه الودود والاكثرون على ما ذكره ابن الأنباري وأنه فعول بمعنى فاعل أي هو الواد كما قرنه بالغفور وهو الذي يغفر وبالرحيم وهو الذي يرحم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عيسى بن جعفر قاضي الري حدثنا سفيان في قوله إن ربي رحيم ودود قال محب وقال قرئ على يونس حدثنا ابن وهب قال وقال ابن زيد قوله الودود قال الرحيم وقد ذكر فيه قولين القول الاول رواه من تفسير الوالبي عن ابن عباس قوله الودود قال الحبيب والثاني قول ابن زيد الرحيم وما ذكره الوالبي أنه الحبيب قد يراد به المعنيان أنه يحب ويحب فان الله يحب من يحبه وأولياؤه يحبهم ويحبونه والبغوي ذكر الأمرين فقال وللودود معنيان أن يحب المؤمنين وقيل هو بمعنى المودود أي محبوب المؤمنين وقال أيضا في قوله وهو الغفور الودود أي المحب لهم وقيل معناه المودود كالحلوب والركوب بمعنى المحلوب والمركوب وقيل يغفر ويود أن يغفر وقيل المتودد إلى أوليائه بالمغفرة قلت هذا للفظ معروف في اللغة أنه بمعنى الفاعل كقول النبي ﷺ تزوجوا الودود الولود وفعول بمعنى فاعل كثير كالصبور والشكور وأما بمعنى مفعول فقليل وأيضا فان سياق القرآن يدل على أنه أراد أنه هو الذي يود عباده كما أنه هو الذي يرحمهم ويغفر لهم فان شعيبا قال واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود فذكر رحمته ووده كما قال تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة وهو أراد وصفا يبين لهم أنه سبحانه يغفر الذنب ويقبل على التائب وهو كونه ودودا كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي ﷺ أن الله يفرح بتوبة التائب أشد من فرح من فقد راحلته بأرض دوية مهلكة ثم وجدها بعد اليأس فهذا الفرح منه بتوبة التائب يناسب محبته له ومودته له وكذلك قوله في الآية الأخرى وهو الغفور الودود فانه مثل قوله وهو الغفور الرحيم وأيضا فان كونه مودودا أي محبوبا يذكر على الوجه الكامل الذي يتبين اختصاصه به مثل اسم الآله فإن الآله المعبود هو مودود بذلك ومثل اسمه الصمد ومثل ذي الجلال والاكرام ونحو ذلك وكونه مودودا ليس بعجيب وإنما العجب جوده واحسانه فانه يتودد إلى عباده كما في الاثر يا عبدي كم أتودد اليك بالنعم وأنت تتمقت إلي بالمعاصي ولا يزال ملك كريم يصعد إلي منك بعمل سيء وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال يقول الله تعالى من تقرب إلي شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت اليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وجاء في تفسير اسمه الحنان المنان أن الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذ يجود بالنوال قبل السؤال وأيضا فمبدأ الحب والود منه لكن اسمه الودود يجمع المعنيين كما قال الوالبي عن ابن عباس انه الحبيب وذلك أنه إذا كان يود عباده فهو مستحق لان يوده العباد بالضرورة ولهذا من قال انه يحب المؤمنين قال انهم يحبونه فان كثيرا من الناس يقول انه محبوب وهو لا يحب شيئا مخصوصا لكن محبته بمعنى مشيئته العامة ومن الناس من قال إنه لا يحب مع أنه يثبت محبته للمؤمنين فالقسمة في المحبة رباعية فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين قالوا إنه يحب ويحب والجهمية والمعتزلة تنكر الأمرين ومن الناس من قال إنه يحبه المؤمنون وأما هو فلا يحب شيئا دون شيء ومنهم من عكس فقال بل هو يحب المؤمنين مع أن ذاته لا يحب كما يقولون إنه يرحم ولا يرحم فاذا قيل إن الودود بمعنى الواد لزم أن يكون مودودا بخلاف العكس فالصواب القطع بأن الودود وان كان ذلك متضمنا لأنه يستحق أن يود ليس هو بمعنى المودود فقط ولفظ الوداد بالكسر هو مثل الموادة والتواد وذاك يكون من الطرفين كالتحاب وهو سبحانه لما جعل بين الزوجين مودة ورحمة كان كل منهما يود الآخر ويرحمه وهو سبحانه كما ثبت في الحديث الصحيح أرحم بعباده من الوالدة بولدها وقد بين الحديث الصحيح أن فرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد ماله ومركوبه في مهلكة إذا وجدهما بعد اليأس وهذا الفرح يقتضي أنه أعظم مودة لعبده المؤمن من المؤمنين بعضهم لبعض كيف وكل ود في الوجود فهو من فعله فالذي جعل الود في القلوب هو أولى بالود كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما في قوله سيجعل لهم الرحمن ودا قال يحبهم وقد دل الحديث الذي في الصحيحين على أن ما يجعله من المحبة في قلوب الناس هو بعد أن يكون هو قد أحبه وأمر جبريل أن ينادي بأن الله يحبه فنادى جبريل في السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه وبسط هذا له موضع آخر وفي مناجاة بعض الداعين ليس العجب من حبي لك مع حاجتي إليك العجب من حبك لي مع غناك عني وفي أثر آخر يا عبدي وحقي اني لك محب فبحقي عليك كن لي محبا وروي يا داود حببني إلى عبادي وحبب عبادي إلي مرهم بطاعتي فأحبهم وذكرهم آلائي فيحبوني فانهم لا يعرفون مني إلا الحسن الجميل وهو سبحانه كما قال كل ما خلقه فانه من نعمه على عباده ولهذا يقول فبأي آلاء ربكما تكذبان والخير بيديه لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا حول ولا قوة إلا به ولا ملجأ ولا منجا منه إلا اليه ووده سبحانه هو لمن تاب اليه وأناب اليه كما قال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا وقال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فلا يستوحش أهل الذنوب وينفرون منه كأنهم حمر مستنفرة فانه ودود رحيم بالمؤمنين يحب التوابين ويحب المتطهرين ولهذا قال شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود وقال هنا وهو الغفور الودود فذكر الودود في الموضعين لبيان مودته للمذنب إذا تاب اليه بخلاف القاسي الجافي الغليظ الذي لا ود فيه

والحجة الثانية لهم قالوا إن الارادة والمحبة لا تتعلق إلا بمعدوم يراد فعله فانه لو جاز أن يراد الموجود وأن يراد القديم لجاز أن يكون العالم قديما مع كونه مراد مقدورا كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة فان القائلين إنه موجب بذاته والعالم قديم منهم من يصفه بالارادة كأبي البركات وغيره قالوا ومن المعلوم بالاضطرار للعقلاء إذ قالوا هذا الامر حصل بالارادة أن يكون محدثا كائنا بعد أن لم يكن ولهذا لا يجوز أن يقال إن قدرته ومشيئته تعلقت بوجوده ولا ببقائه ولا بكونه حيا ومن قال إن صفاته قديمة الأعيان لا يقول إن كلامه وإرادته حصلت بارادته وقدرته فيقال هذا الذي قالوه صحيح لكن هنا نوعان أحدهما إرادة أن يفعل الشيء ويكون فهذه لا تكون إلا مع حدوثه والثانية محبة نفس ذاته من غير أن يفعل في الذات شيء فهذه التي تتعلق بالموجود والباقي والقديم وارادة الفعل تابعة لهذه فانه لولا أن تكون الارادة متعلقة بنفس الشيء الموجود امتنع أن راد ايجاده فان من أراد أن يبني بيتا ليسكنه إنما مراده نفس البيت لسكناه والانتفاع وانما البناء وسيلة إلى ذلك ولولا إرادة الغاية المقصودة بالذات لم ترد الوسيلة وإذا بناه فهو مريد له بعد البناء ولهذا يكره خرابه وزواله وكذلك من أراد أن يلبس ثوبا فلبسه فهو في حال اللبس مريد له فمن أراد إحداث أمر وفعله كانت إرادة فعله لغاية مقصودة بعد الفعل هي العلة الغائبة والفعل المطلوب لغاية لفاعله ارادتان ارادة الفعل وارادة الغاية وهذه هي الأصل وتلك تبع لهذه والارادة ارادة لا تتعلق بالمعدوم من جهة كونه معدوما بل تتعلق بوجود الفعل لكن يمتنع أن يراد فعله إلا اذا كان معدوما فالعدم شرط في ارادة فعله ولهذا جعل من جملة علل الفعل ولهذا كان جماهير العقلاء مطبقين على أن كل مفعول فهو حادث وكل ما أريد أن يفعل فانه يكون حادثا وكل ما تعلقت المشيئة والقدرة بفعله فهو حادث ثم من الناس من يقول هذا مختص بكونه مفعولا بالاختبار وإلا اذا كان معلولا لعلة موجبة لم يلزم حدوثه وهو غلط بل كل ما فعل فلا يكون الا محدثا سواء كان ذلك ممكنا أو ممتنعا بل نفس كونه مفعولا مستلزم حدوثه ونفس تصور العلم بكونه مفعولا يوجب العلم بحدوثه وان لم يخطر بالباب كونه مفعولا بالقدرة والاختيار ثم قد يقال ما من مفعول إلا وهو مفعول بالاختيار والقديم اذا قدر فاعلا بلا مشيئة كان ذلك ممتنعا والموجب بالذات اذا قيل هو موجب بذاته المتصفة بمشيئته وقدرته لما يشاؤه فهذا حق وهو مستلزم لكونه فاعلا بمشيئته وقدرته وأما موجب بلا مشيئة أو موجب يقارنه موجبه فهذان باطلان وبهما ضل من ضل من المتفلسفة القائلين بقدم الفلك ونفي الصفات ولكن من أراد احداث شيء وأحدثه لم يجب أن تنقطع ارادته بل قد يكون مريدا له ما دام موجودا ولولا انه مريد لوجوده لما فعله فكل ما شاء الرب وجوده فهو مريد لاحداثه وبقائه ما دام باقيا وأما الارادة والمحبة المتعلقة بالقديم فليست ارادة فعل فيه بل هي محبة ذاته وكل ارادة ومحبة فلا بد أن تنتهي الى محبوب لذاته وكل فاعل بالارادة فارادته تستلزم محبة عامة لاجلها فعل فالحب أصل وجود كل موجود والرب تعالى يحب نفسه ومن لوازم حبه نفسه أنها محبة مريدة لما يريد أن يفعله وما أراد فعله فهو يريده لغاية يحبها فالحب هو العلة الغائبة التي لأجلها كان كل شيء والمتفلسفة يصفونه بالابتهاج والفرح كما جاءت به النصوص النبوية لكنهم يقصرون في معرفة هذا وأمثاله من الأمور الالهية فانهم يقولون اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهو مدرك لذاته بأفضل إدراك فهو أفضل مدرك لأفضل مدرك بأفضل إدارك وقد قصروا في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أن اللذة والفرح والسرور والبهجة ليس هو مجرد الادراك بل هو حاصل عقب الادراك فالادراك موجب له ولا بد في وجوده من محبة فهنا ثلاثة أمور محبة وادراك محبوب ولذة تحصل بالادراك وهذا في اللذة الدنيوية الحسية وغيرها فان الانسان يشتهي الحلو ويحبه فاذا ذاقه التذ بذوقه والذوق هو الادراك وكذلك في لذات قلبه يحب الله فانه اذا ذكره وصلى له وجد حلاوة ذلك كما قال ﷺ جعلت قرة عيني في الصلاة وأهل الجنة اذا تجلى لهم فنظروا اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه والله أعلم فصل في تمام القول في محبة الله

وانقسام المراد الى ما يراد لذاته والى ما يراد لغيره

ثم ذلك الغير لا بد أن يكون مرادا لذاته فالمراد لذاته لازم لجنس الارادة

والارادة لازمة لجنس الحركة فان الحركة القسرية مستلزمة للحركة الارادية والحركة الارادية مستلزمة للمراد لذاته فكان جنس الحركات الموجودة في العالم مستلزم للمراد لذاته وهو المعبود الذي يستحق العبادة لذاته وهو الله لا إله إلا هو فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وكل عامل لا يكون عمله لله بل لغيره فهو المشرك فانه كما قال الله تعالى فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فان قوام الشيء بطبيعته الخاصة به فالحي قوامه بطبيعته المستلزمة لحركته الارادية وقوامها بالمراد لذاته فاذا لم تكن حركتها لارادة المعبود لذاته لم يكن لنفسه قوام بل بقيت ساقطة خارة كما ذكر الله تعالى ولهذا يهوي في الهاوية وهو ذنب لا يغفر لأنه فسد الأصل كالمريض الذي فسد قلبه لا ينفع مع ذلك إصلاح أعضائه ولفظ دعاء الله في القرآن يراد به دعاء العبادة ودعاء المسألة فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به فيكون الله هو المراد ودعاء المسألة يكون الله هو المراد منه كما في قول المصلي إياك نعبد وإياك نستعين فالعبادة إرادته والاستعانة وسيلة الى العبادة فالعبادة إرادة المقصود وارادة الاستعانة ارادة الوسيلة الى المقصود ولهذا قدم قوله إياك نعبد وان كانت لا تحصل إلا بالاستعانة فان العلة الغائبة مقدمة في التصور والقصد وان كانت مؤخرة في الوجود والحصول وهذا إنما يكون لكونه هو المحبوب لذاته لكن المراد به محبة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم وعلى سبيل تخصيصها به فيعبر عنها بلفظ الإنابة والعبادة ونحو ذلك اذ أن لفظ المحبة جنس عام يدخل فيه أنواع كثيرة فلا يرضى لله بالقدر المشترك بل اذا ذكر من يحب غير الله ذكر الله قال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله واذا ذكر محبتهم لربهم ذكرت محبته لهم وجهادهم كما في قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفي مثل قوله أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ولهذا كانت القلوب تطمئن بذكره كما قال تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب فتقديم المفعول يدل على أنها لا تطمئن إلا بذكره وهو تعالى اذا ذكر وجلت فحصل لها اضطراب ووجل لما تخافه من دونه وتخشاه من فوات نصيبها منه فالوجل اذا ذكر حاصل بسبب من الانسان وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة لانه هو المعبود لذاته والخير كله منه قال تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال تعالى اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم وقال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه فالخوف الذي يحصل عند ذكره هو بسبب من العبد وإلا فذكر الرب نفسه يحصل الطمأنينة والامن فما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك كما قال ذلك المريض الذي سئل كيف تجدك فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال النبي ﷺ ما اجتمعا في قلب عبد مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف ولم يقل بذكر الله توجل القلوب كما قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب بل قال اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ثم قال واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون وإنما يتوكلون عليه لطمأنينتهم الى كفايته وأنه سبحانه حسب من توكل عليه يهديه وينصره ويرزقه بفضله ورحمته وجوده فالتوكل عليه يتضمن الطمأنينة اليه والاكتفاء به عما سواه وكذلك قال في الآية الأخرى فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون فهم مخبتون والمخبت المطمئن الخاضع لله والارض الخبت المطمئنة روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي عن الثوري عن ابن أبي نجيح وبشر المخبتين قال المطمئنين وعن الضحاك المتواضعين فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل كما وصفهم هناك بالتوكل عليه مع الوجل وكما قال في وصف القرآن تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فذكره بالذات يوجب الطمأنينة وإنما الاقشعرار والوجل عارض بسبب ما في نفس الانسان من التقصير في حقه والتعدي لحده فهو كالزبد مع ما ينفع الناس الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الارض فالخوف مطلوب لغيره ليدعو النفس الى فعل الواجب وترك المحرم وأما الطمأنينة بذكره وفرح القلب به ومحبته فمطلوب لذاته ولهذا يبقى معهم هذا في الجنة فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس والمتفلسفة رأوا اللذات في الدنيا ثلاثة حسية ووهمية وعقلية والحسية في الدنيا غايتها دفع الالم والوهمية خيالات واضحات واللذات الحقيقية هي العلم فجعلوا جنس العلم غاية وغلطوا من وجوه أحدها أن العلم بحسب المعلوم فاذا كان المعلوم محبوبا تكمل النفس بحبه كان العلم به كذلك وان كان مكروها كان العلم به لحذره ودفع ضرره كالعلم بما يضر الانسان من شياطين الانس والجن فلم يكن المقصود نفس العلم بل المعلوم ولهذا قد يقولون سعادتها في العلم بالامور الباقية وأنها تبقى ببقاء معلومها ثم يظنون أن الفلك والعقول والنفوس أمور باقية وأن بمعرفة هذه تحصل سعادة النفس وأبو حامد في مثل معراج السالكين ونحوه يشير الى هذا فان كلامه برزخ بين المسلمين وبين الفلاسفة ففيفه فلسفة مشوبة باسلام وإسلام مشوب بفلسفة ولهذا كان في كتبه كالأحياء وغيره يجعل المعلوم بالأعمال والأعمال كلها إنما غايتها هو العلم فقط وهذا حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة وكان يعظم الزهد جدا ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه فان هذا التوحيد يتضمن محبة الله وحده وترك محبة المخلوق مطلقا إلا اذا أحبه الله فيكون داخلا في محبة الله بخلاف من يحبه مع الله فان هذا شرك وهؤلاء المتفلسفة إنما يعظمون تجريد النفس عن الهيولي وهي المادة وهي البدن وهو الزهد في أغراض البدن وهو الزهد في الدنيا وهذا ليس فيه إلا تجريد النفس عن الاشتغال بهذا فتبقى النفس فارغة فيلقي اليها الشيطان ما يلقيه ويوهمه أن ذلك من علوم المكاشفات والحقائق وغايته وجود مطلق هو في الاذهان لا في الاعيان ولهذا جعل أبو حامد السلوك إلى إلا ثلاثة منازل بمنزلة السلوك الى مكة فان السالك اليها له ثلاثة أصناف من الشغل الاول تهيئة الاسباب كشراء الزاد والراحلة وخرز الراوية والآخر السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه الى الكعبة منزلا بعد منزل والثالث الاشتغال بأركان الحج ركنا بعد ركن ثم بعد النزوع عن لبسة الاحرام وطواف الوداع استحق التعرض للملك والسلطنة قال فالعلوم ثلاثة قسم يجري مجرى سلوك البوادي وقطع العقبات وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات وطلوع تلك العقبة الشامخة التي عجز عنها الاولون والآخرون إلا الموفقون قال فهذا سلوك للطريق وتحصيل علمه كتحصيل علم جهات الطريق ومنازله وكما لا يغني علم المنازل وطرق البوادي دون سلكوها فكذا لا يغني علم تهذيب الاخلاق دون مباشرة التهذيب لكن المباشرة دون العلم غير ممكن قال وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه وهو العلم بالله وصفاته وملائكته وأفعاله وجميع ما ذكرناه في تراجم علم المكاشفة قال وههنا نجاة وفوز بالسعادة والنجاة حاصلة لكل سالك للطريق اذا كان غرضه المقصد وهو السلامة وأما الفوز بالسعادة فلا ينالها إلا العارفون فهم المقربون المنعمون في جوار الله بالروح والريحان وجنة نعيم وأما الممنوعون دون ذروة الكمال فلهم النجاة والسلامة كما قال الله تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين قال وكل من لم يتوجه الى المقصد أو انتهض الى جهته لا على قصد الامتثال بالأمر والعبودية بل لغرض عاجل فهو من اصحاب الشمال ومن الضالين فله نزل من حميم وتصلية جحيم قال واعلم أن هذا هو الحق اليقين عند العلماء الراسخين في العلم أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن ومشاهدة الباطن أقوى وأجل من مشاهدة الأبصار وترقوا فيه عن حد التقليد الى الاستبصار قلت وكلامه من هذا الجنس كثير ومن لم يعرف حقيقة مقصده يهوله مثل هذا الكلام لان صاحبه يتكلم بخبرة ومعرفة بما يقوله لا بمجرد تقليد لغيره لكن الشأن فيما خبره هل هو حق مطابق ومن سلك مسلك المتكلمين الجهمية والفلاسفة ولم يكن عنده خبرة بحقائق ما بعق به رسوله وأنزل به كتبه بل ولا بحقائق الأمور عقلا وكشفا فان هذا الكلام غايته وأما من عرف حقيقة ما جاءت به الرسل أو عرف مع ذلك بالبراهين العقلية والمكاشفات الشهودية صدقهم فيما أخبروا به فانه يعلم غاية مثل هذا الكلام وأنه إنما ينتهي الى التعطيل ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة وسلوك وعلم في هذا فقال كلام أبي حامد يشوقك فتسير خلفه وهو يشوقك فتسير خلفه منزلا بعد منزل فاذا هو ينتهي الى لا شيء وهذا الذي جعله هنا الغاية وهو معرفة الله وصفاته وأفعاله وملائكته قد ذكره في المضنون به على غير أهله وهو فلسفة محضة قول المشركين من العرب خير منه دع قول اليهود والنصارى بل قوم نوح وهود وصالح ونحوهم كانوا يقرون بالله وبملائكته وصفاته وأفعاله خيرا من هؤلاء لكن لم يقروا بعبادته وحده لا شريك له ولا بأنه أرسل رسولا من البشر وهذا حقيقة قول هؤلاء فانهم لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ولا يثبتون حقيقة الرسالة بل النبوة عندهم فيض من جنس المنامات وأولئك الكفار ما كانوا ينازعون في هذا الجنس فان هذا الجنس موجود لجميع بني آدم ومع هذا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقرون بالملائكة كما قال فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة وقال قوم نوح ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين بل فرعون قال لموسى أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين والعبادات كلها عندهم مقصودها تهذيب الاخلاق والشريعة سياسة مدنية والعلم الذي يدعون الوصول اليه لا حقيقة لمعلومه في الخارج والله أرسل رسوله بالاسلام والايمان بعبادة الله وحده وتصديق الرسول فيما أخبر فالاعمال عبادة الله والعلوم تصديق الرسول وكان النبي ﷺ يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الاخلاص وتارة قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا الآية فانها تتضمن الايمان والاسلام وبالآية من آل عمران قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم

ج2. النلوات لابن تيمية

 

فصل

في آيات الانبياء وبراهينهم

وهي الادلة والعلامات المستلزمة لصدقهم والدليل لا يكون إلا مستلزما للمدلول عليه مختصا به لا يكون مشتركا بينه وبين غيره فإنه يلزم من تحققه تحقق للمدلول وإذا انتفى المدلول انتفى هو فما يوجد مع وجود الشيء ومع عدمه لا يكون دليلا عليه بل الدليل لا يكون الا مع وجوده فما وجد مع النبوة تارة ومع عدم النبوة تارة لم يكن دليلا على النبوة بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها وهنا اضطرب الناس فقيل دليلها جنس يختص بها وهو الخارق للعادة فلا يجوز وجوده لغير نبي لا ساحر ولا كاهن ولا ولي كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم كابن حزم وغيره وقيل بل الدليل هو الخارق للعادة بشرط الاحتجاج به على النبوة والتحدي بمثله وهذا منتف في السحر والكرامة كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الاثبات كالقاضيين أبي بكر وأبي يعلى وغيرهما وقد بسط القاضي أبو بكر الكلام في ذلك في كتابه المصنف في الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانات والسحر والنيرنجيات وهؤلاء جعلوا مجرد كونه خارقا للعادة هو الوصف المعتبر وفرق بين أن يقال لا بد أن يكون خارقا للعادة وبين أن يقال كونه خارقا للعادة هو المؤثر فإن الاول يجعله شرطا لا موجبا والثاني يجعله موجبا وفرق بين أن يقال العلم والبيان وقراءة القرآن لا يكون إلا من حي وبين أن يقال كونه حيا يوجب أن يكون عالما قارئا ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف بل ولا ذكر خرق العادة ولا لفظ المعجز وانما فيه آيات وبراهين وذلك يوجب اختصاصها بالانبياء

وأيضا فقالوا في شرطها أن لا يقدر عليها إلا الله لا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للإنس بأن يكون جنسها مما لا يقدر عليه إلا الله كاحياء الموتى وقلب العصا حية واذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة مثل حمل الجبال والقفز من المشرق الى المغرب والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر ففيه لهم قولان أحدهما أن ذلك يصح أن يكون معجزة والثاني أن المعجزة انما هي إقدار المخلوق على ذلك بأن يخلق فيه قدرة خارجة عن قدرته المعتادة وهذا اختيار القاضي أبي بكر ومن اتبعه كالقاضي أبي يعلى وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم إنها لا تكون مقدورة لغير الله بخلاف القول الاول فانه تقع فيه شبهة اذ كان الجنس معتادا وانما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة وهذا الفرق الذي ذكره ضعيف فإنه إذا كان قادرا على اليسير فخرق العادة في قدرته حتى جعله قادرا على الكثير فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور وانما خرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة كما خرقت بفعل خارج عن القدرة وعنده أن خلق القدرة خلق لمقدورها والقدرة عنده مع الفعل فلا فرق وهذا القول وهو أن المعجزة لا تكون إلا مقدورة للرب لا للعباد قول كثير من أهل الكلام من القدرية والمثبتة للقدر وغيرهم ثم انهم لما طولبوا بالدليل على أنه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك مما ذكروا أنه يمتنع أن يكون مقدورا لغير الله اعتمدوا في الدلالة على أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز أن يكون العبد قادرا على هذه الامور لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده وهو العجز أو القدرة على ضد ذلك الفعل كما يقولونه في فعل العبد انه اذا لم يقدر على الفعل فلا بد أن يكون عاجزا أو قادرا على ضده هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل والقدرة عنده لا تصلح للضدين كالاشعرية فيقول لا يخلو من القدرة أو العجز فهذه مقدمة والمقدمة الثانية ونحن لا نحس من أنفسنا عجزا عن إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو هذه الامور لكنا غير قادرين عليها ولا يجوز أن نقدر عليها وهؤلاء يقولون لا يكون الشيء عاجزا إلا عما يصح أن يكون قادرا عليه بخلاف مالا يصح أن يكون قادرا عليه فلا يصح أن يكون عاجزا عنه ولهذا قالوا لا ينبغي أن تسمى هذه معجزات لان ذلك يقتضي أن الله أعجز العباد عنها وإنما يعجز العباد عما يصح قدرتهم عليه هذا كلام القاضي أبي بكر ومن وافقه وكلا المتقدمين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيا على مثل هذا الكلام الذي ينازعه فيه أكثر العقلاء ولو كان صحيحا لم يفهم إلا بكلفة ولا يفهمه إلا قليل من الناس فكيف اذا كان باطلا والذين آمنوا بالرسل لما رأوه وسمعوه من الآيات لم يتكلموا بمثل هذا الفرق بل ولا خطر بقلوبهم ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق كأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم حذفوا هذا القيد وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها وقالوا كل حادث فهو مقدور للرب وأفعال العباد هي أيضا مقدورة للرب وهو خالقها والعبد ليس خالقا لفعله فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدل بها على النبوة وتحدى بمثلها فلم يمكن أحدا معارضته هذه القيود الثلاثة وحذفوا ذلك القيد وزعم القاضي أبو بكر أن ما يستدل به على أن المعجزات يمتنع دخولها تحت قدرة العباد لا يصح على أصول القدرية وبسط القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض كعادته في أمثال ذلك ثم جعل هذا الفرق هو الفرق بين المعجزات وبين السحر والحيل فقال وأما على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم ومما يستحيل دخوله ودخول مثله تحت قدرة العباد فاذا كان كذلك استحال أن يفعل أحد من الخلق شيئا من معجزات الرسل أو ما هو من جنسها لان المحتال إنما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته دون ما يستحيل كونه مقدورا له قال وأما القائلون بأنه يجوز أن يكون في معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قدرة العباد وان لم يقدروا على كثيره وما يخرق العادة منه فانهم يقولون قد علمنا انه لا حيلة ولا شيء من السحر يمكن أن يتوصل به الساحر والمشعبذ الى فعل الصعود في السماء ولا قفز من المشرق الى المغرب وقفز الفراسخ الكثيرة والمشي على الماء وحمل الجبال الراسيات هذا أمر لا يتم بحيلة محتال ولا سحر ساحر وتكلم على إبطال قول من قال ان السحر لا يكون إلا تخييلا لا حقيقة له وذكر أقوال العلماء والآثار عن الصحابة بأن الساحر يقتل بسحره وقول إنه يقتل حدا عند أكثرهم وقصاصا عند بعضهم ثم قال باب القول في الفصل بين المعجزة والسحر وهو لم يفرق بين الجنسين بل يجوز أن يكون ما هو معجزة للرسول يظهر على يد الساحر لكن قال الفرق هو تحدي الرسول بالاتيان بمثله وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه فمتى وجد الذي ينفرد الله بالقدرة عليه من غير تحد منه واحتجاج لنبوته بظهوره لم يكن معجزا واذا كان كذلك خرج السحر عن أن يكون معجزا ومشبها لآيات الانبياء وكان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل وما يفعله الله عند تحديهم به غير أن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله بوجهين أحدهما أن ينسيه عمل السحر أولا يفعل عند سحره شيئا في المسحور من موت أو سقم أو بغض ولم يخلق فيه الصعود الى جهة العلو والقدرة على الدخول في بقرة فاذا منعه هذه الاسباب بطل السحر والثاني أن الساحر تمكن معارضته فان أبواب السحر معلومة عند السحرة فاذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره لم يلبث أن يجد خلقا من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق وأبلغ مما أورده والرسول اذا ظهر عليه مثل ذلك وادعاه آية له قال لهم هذا آيتي وحجتي ودليل ذلك أنكم لا تقدرون على مثله ولا يفعله الله في وقتي هذا ومع تحدي ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر وفعل كاهن وقد كان يظهر من سحرتكم وكهانكم وهي آية لا تظهر اليوم على أحد من الخلق وان دق سحره وعظم في الكهانة علمه فاذا ظهر ذلك عليه وامتنع ظهور مثله على يد ساحر أو كاهن مع أنه قد كان يظهر من قبل صار هذا خرق عادة البشر وعادة السحرة والكهنة خاصة قال ولم يبعد أن يقال هذه الآية أعظم من غيرها وان لها فضل مزية ذكر هذا بعد أن قال فان قال قائل فاذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض وبغض الوطن والرد اليه من السفر وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشد الذي يعلمه السحرة والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض الآلات في الفصل بين هذا وبين معجزات الرسل وكيف تنفصل مع ذلك المعجزات من السحر ويمكن الفرق بين النبي والساحر أو ليس لو قال نبي مبعوث أني أصعد على هذا الخيط نحو السماء وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج وأني أفعل فعلا أفرق به بين المرء وزوجه وأفعل فعلا أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آيه ودليلا على صدقه وما الفصل اذا بين السحر والمعجز ثم قال في الجواب يقال له جواب هذا قريب وذلك أنا قد بينا في صدر هذا الكتاب أن من حق المعجز ألا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله على وجه خرق عادة البشر مع تحدي الرسول بالايتان الى آخر ما كتب

قلت هذا عمدة القوم ولهذا طعن الناس في طريقهم وشنع عليهم ابن حزم وغيره وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه

أحدها أنه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله يأتي به النبي تارة والساحر تارة ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوة والاستدلال به والتحدي بالمثل فلا حاجة الى كونه مما انفرد الباري بالقدرة عليه لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه وما لا يمتنع ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد

الوجه الثاني وبه تنكشف حقيقة طريقهم انه على هذا لم تتميز المعجزات بوصف نختص به وانما امتازت باقترانها بدعوى النبوة وهذا حقيقة قولهم وقد صرحوا به فالدليل والبرهان إن استدل به كان دليلا وان لم يستدل به لم يكن دليلا وان اقترنت به الدعوى كان دليلا وان لم تقترن به الدعوى لم يكن دليلا عندهم ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية بل دلالة وضعية كدلالة الالفاظ بالاصطلاح وهذا مستدرك من وجوه منها أن كون آيات الانبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة أمر معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل الثاني أن هذا من أعظم القدح في الانبياء إذا كانت آياتهم من جنس سحر السحرة وكهانة الكهان

الثالث أنه على هذا التقدير لا تبقى دلالة فان الدليل ما يستلزم المدلول ويختص به فاذا كان مشتركا بينه وبين غيره لم يبق دليلا فهؤلاء قدحوا في آيات الانبياء ولم يذكروا دليلا على صدقهم

الرابع أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة وقوله إنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر أو يأتي بمن يعارضه دعوى مجردة فان المنازع يقول لا نسلم أنه أذا ادعى النبوة فلا بد أن يفعل الله ذلك لا سيما على أصله وهو أن الله يجوز أن يفعل كل مقدور وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله وادعى أن ما يخرق العادة من الامور الطبيعية والطلمسات هي كالسحر فقال ولاجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس وما يوجد ويكون عند كتب الطلمسات قال وذلك أنه لو ابتدأ نبي باظهار حجر المغناطيس لوجب أن يكون ذلك آية له ولو أن أحدا أخذ هذا الحجر وخرج الى بعض البلاد وادعى أنه آية له عند من لم يره ولم يسمع به لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين أحدهما أن يؤثر دواعي خلق من البشر الى حمل جنس تلك الحجارة الى ذلك البلد وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار وتعرفه العرب وكذلك سبيل الطلمسات التي يقال انها تنفي الذباب والبق والحيات والوجه الآخر أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل فيقال هذه دعوى مجردة

ومما يوضح ذلك الوجه الخامس وهو أن جعل قدح الزناد وجذب حجر المغناطيس والطلمسات من جنس معجزات الانبياء وأنه لو بعث نبي ابتداء وجعل ذلك آية له جاز ذلك غلط عظيم وعدم علم بقدر معجزات الانبياء وآياتهم وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية كما فعلت المعتزلة وأولئك كذبوا بوجود ذلك لغير الانبياء وهؤلاء ما أمكنهم تكذيب ذلك لدلالة الشرع والاخبار المتواترة والعيان على وجود حوادث من هذا النوع فجعلوا الفرق افتراق الدعوى والاستدلال والتحدي دون الخارق ومعلوم أن ما ليس بدليل لا يصير دليلا بدعوى المستدل أنه دليل وقد بسط الكلام في ذلك وجوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل مع أن المثل عنده موجود وآيات الانبياء لها أمثال كثيرة لغير الانبياء لكن يقول إن من ادعى الإتيان فإما أن لا يظهرها الله على يديه وإما أن يقيض من يعارضه بمثلها هذا عمدة القوم وليس فرقا حقيقيا بين النبي والساحر وانما هو مجرد دعوى

وهذا يظهر بالوجه السادس وهو أن من الناس من ادعى النبوة وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق فلم يمنع منها ولم يعارضه أحد بل عرف أن هذا الذي أتى به ليس من آيات الانبياء وعرف كذبه بطرق متعددة كما في قصة الاسود العنسي ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء ممن ادعى النبوة فقولهم إن الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس ليس كما ادعوه

الوجه السابع أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب لأن ذلك يفضي الى عجز الرب وهذه عمدة الاشعري في أظهر قوليه وهي المشهورة عند قدمائهم وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى ونحوه قال القاضي أبو بكر فان قال قائل من القدرية فلم لا يجوز أن تظهر المعجزات على يد مدعي النبوة ليلبس بذلك على العباد ويضل به عن الدين وانتم تجوزون خلقه الكفر في قلوب الكفار وإضلالهم فما الفصل بين إضلالهم بهذا وبين اضلالهم باظهار المعجزات على يد الكاذبين قال فيقال لمن سأل عن هذا من القدرية الفصل بين الامرين ظاهر معلوم وقد نص القرآن والأخبار بأنه يضل ويهدي ويختم على القلوب والأسماع والأبصار فاما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب من الأفعال وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين فجوابه أنا لم تحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين او لقبحه من الله لو وقع أو لاستحقاقه الذم عليه تعالى عن ذلك أو لكونه ظالما لهم بالتكليف مع هذا الفعل كل ذلك باطل محال من تمويههم وإنما احلناه لأنه يوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكادب وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل إذ لا دليل في قول كل أحد أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم إلا ظهور أعلام المعجزة على أيديهم أو خبر من ظهرت المعجزة على يده عن نبوة آخر مرسل فهذا إجماع لا خلاف فيه فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك لبطلت دلائل النبوة وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم ولما لم يجز عجزه وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين

قلت هذا عمدة القوم والمتأخرون عرفوا ضعف هذا فلم يسلكوه كأبي المعالي والرازي وغيرهما بل سلكوا الجواب الآخر وهو أن العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة فهو علم ضروري وبين ضعف هذا الجواب مع أنه يحتج به وقال فهذا هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كان الامر كما زعمتم فانما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل دال على صدقهم جنسه لا يدل بل جنسه يقع مع عدم النبوة ولم يبق عندكم جنس من الادلة يخص النبوة فلم قلتم إن تصديقهم والحال هذه ممكن ولا ينفعكم هذا الاستدلال بالاجماع ونحوه من الادلة السمعية لان كلامكم مع منكري النبوات فيجب أن تقيموا عليهم كون المعجزات دليلا على صدق النبي وأما من أقر بنبوتهم بطريق غير طريقكم فإنه لا يحتاج الى كلامكم فاذا قال لكم منكرو النبوة لا نسلم إمكان طريق يدل على صدقهم لم يكن معكم ما يدل على ذلك وقد أورد هذا السؤال وأجاب عنه بأنه يمكنه تصديقهم بالقول والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول بل التصديق بالفعل أوكد وضرب المثل بمدعي الوكالة اذا قال قم أو اقعد ففعل ذلك عند استشهاد وكيله فان العقلاء كلهم يعلمون أنه أقام تلك الأفعال مقام القول

قلت وهذا يعود الى الاحتجاج بالطريقة الثانية وهي العلم بالتصديق ضرورة فلا حاجة الى طريقة المعجزات الثاني انه يمكن أن يخلق علما ضروريا بصدقهم وقد سلم القاضي أبو بكر ذلك لكن قال إذا اضطررنا الى العلم بصدق مدعي النبوة وأنه أرسله الينا كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا الى العلم بذاته والى أنه قد أرسل مدعي النبوة وإذا علمنا ذلك اضطرارا لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجه وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين بالعلم بالدين وهذا كلام يؤدي الى خروجنا عن حد المحنة والتكليف فيقال له اذا حصل العلم الضروري بوجود الخالق وبصدق رسوله كان التكليف بالاقرار بالصانع وعبادته وحده لا شريك له وبتصديق رسله وطاعة أمره وهذا هو الذي أمرت به الرسل أمرت الخلق أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوا رسله ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علما نظريا بوجود الخالق وصدق رسله لكن من جحد الحق امروه بالاقرار به وأقاموا الحجة عليه وبينوا معاندته وأنه جاحد للحق الذي يعرفه وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنه صادق ويكذبونه فليتدبر هذا الموضع فانه موضع عظيم الوجه الثالث أن يقال نحن نسلن أن المعجزات تدل على الصدق وأنه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب لكن هو لأن الله منزه عن ذلك وأن حكمته تمنع ذلك ولا يجوز عليه كل فعل ممكن وأنتم مع تجويزكم عليه كل ممكن يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب فما علم بالعقل والاجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم الوجه الرابع أن يقال لم قلتم إنه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات وما ذكرتم من الاجماع على ذلك لا يصح الاستدلال به لوجهين أحدهما أنه لا إجماع في ذلك بل كثير من الطوائف يقولون إن صدقهم بغير المعجزات الثاني أنه لا يصح الاحتجاج بالاجماع في ذلك فان الاجماع إنما يثبت بعد ثبوت النبوة والمقدمات التي تعلم بها النبوة لا يحتج عليها بالاجماع وقولكم لا دليل سوى المعجز مقدمة ممنوعة وذكر عن الأشعري أنه ذكر جوابا آخر فقال وأيضا فإن قول القائل ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين قول متناقض والله على كل شيء قدير ولكن ما طالب السائل باجازته محال لا تصح القدرة عليه ولا العجز عنه لأنه بمنزلة كونه أظهر المعجزات على أيديهم فانه أوجب أنهم صادقون لان المعجز دليل على الصدق ومتضمن له وقوله مع ذلك إنهم كاذبون نقض لقوله إنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم فوجب إحالة هذه المطالبة وصار هذا بمثابة قول من قال ما أنكرتم من صحة ظهور الأفعال المحكمة الدالة على علم فاعلها والمتضمنة لذلك من جهة الدليل من الجاهل بها في أنه قول باطل متناقض فيجب اذا كان الامر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يدي الكاذبين واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال ما أنكرتم وزعمتم أنه من فعل المحال الذي لا يصح حدوثه وتناول القدرة له هو من قبيل الجائز قياسا على صحة خلق الكفر وضروب الضلال التي يصح حدوثها وتناول القدرة لها قلت هذا كلام صحيح اذا علم أنها دليل الصدق يستحيل وجوده بدون الصدق والممتنع غير مقدور فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم لكن المطالب يقول كيف يستقيم على أصلكم أن يكون ذلك دليل الصدق وهو أمر حادث مقدور وكل مقدور يصح عندكم أن يفعله الله ولو كان فيه من الفساد ما كان فانه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن ولا يقبح منه فعل فحينئذ اذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق لم يكن ممتنعا على أصلكم وهي لا تدل على الصدق البتة على أصلكم ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي ألا يكون في المقدور دليل على صدق مدعي النبوة فيلزم أن الرب سبحانه لا يصدق أحدا ادعى النبوة واذا قلتم هذا ممكن بل واقع ونحن نعلم صدق الصادق اذا ظهرت هذه الاعلام على يده ضرورة قيل فهذا يوجب أن الرب لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب وهذا فعل من الأفعال هو قادر عليه وهو سبحانه لا يفعله بل هو منزه عنه فأنتم بين أمرين ان قلتم لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعا فقد قلتم إنه لا يقدر على إحداث حادث قد فعل مثله وهذا تصريح بعجزه وأنتم قلتم فليست بدليل فلا يلزم عجزه فصارت دلالتها مستلزمة لعجزه على أصلكم وان قلتم يقدر لكنه لا يفعل فهذا حق وهو ينقض أصلكم وحقيقة الامر أن نفس ما يدل على صدق الصادق بمجموعه امتنع أن يحصل للكاذب وحصوله له ممتنع غير مقدور وأما خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب فهو ممكن والله سبحانه وتعالى قادر عليه لكنه لا يفعله لحكمته كما أنه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب أو يظلم والمعجز تصديق وتصديق الكاذب هو منزه عنه والدال على الصدق قصد الرب تصديق الصادق وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب فيمتنع جعل من ليس برسول رسولا وجعل الكاذب صادقا ويمتنع من الرب قصد المحال وهو غير مقدور وهو اذا صدق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنه صدقه وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب واستشهادكم بالعلم هو من هذا الباب فانتم تقولون إن الرب لا يخلق شيئا لشيء وحينئذ فلا يكون قاصدا لما في المخلوقات من الإحكام فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم فان الإحكام إنما هو جعل الشيء محصلا للمطلوب بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب وهذا عندهم لا يجوز فاثباته علمه وتصديق رسله مشروط بأن يفعل شيئا لشيء وهذا عندكم لا يجوز فلهذا يقال إنكم متناقضون والله سبحانه وتعالى أعلم

الوجه الثامن أن حقيقة الامر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة الخارق مع التحدي أن المعجز في الحقيقة ليس الا منع الناس من المعارضة بالمثل سواء كان المعجز في نفسه خارقا أو غير خارق وكثير مما يأتي به الساحر والكاهن أمر معتاد لهم وهم يجوزون أن يكون آية للنبي واذا كان آية منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل أو قيض له من يعارضه وقالوا هذا أبلغ فانه منع المعتاد وكذلك عندهم أحد نوعي المعجزات منعهم من الأفعال المعتادة وهو مأخذ من يقول بالصرفة واذا كان كذلك جاز أن يكون كل أمر كالأكل والشرب والقيام والقعود معجزة اذا منعهم أن يفعلوا كفعله وحينئذ فلا معنى لكونها خارقا ولا لاختصاص الرب بالقدرة عليها بل الاعتبار بمجرد عدم المعارضة وهم يقرون بخلاف ذلك والله أعلم

الوجه التاسع أنه اذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة مع التحدي فلا حاجة الى كونه خارقا كما تقدم ويجب اذا تحدى بالمثل أن يقول فليأت بمثل القرآن من يدعي النبوة فإن هذا هو المعجز عندهم وإلا كان القرآن مجردا ليس بمعجز فلا يطلب مثل القرآن إلا ممن يدعي النبوة كما في الساحر والكاهن اذا ادعى النبوة سلبه الله ذلك او قيض له من يعارضه وإذا لم يدع النبوة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبي فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن وسائر المعجزات والله أعلم

فصل في أن الرسول لا بد أن يبين أصول الدين

وهي البراهين الدالة على أن ما يقوله حق من الخبر والأمر فلا بد أن يكون قد بين الدلائل على صدقه في كل ما أخبر ووجوب طاعته في كل ما أوجب وأمر ومن أعظم أصول الضلال الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج فإن المعرضين عن هذا إما أن يصدقوه ويقبلوا قوله ويؤمنوا به بلا دليل أصلا ولا علم وإما أن يستدلوا على ذلك بغير أدلته فان لم يكونوا عالمين بصدقه فهم ممن يقال له في قبره ما قولك في هذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه وأما المنافق أو المرتاب فيقول هاء هاء لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين وان استدل على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها الناس فهو مع كونه مبتدعا لا بد أن يخطئ ويضل فان ظن الظان أنه بأدلة وبراهين خارجة عما جاء به تدل على ما جاء به فهو من جنس ظنه أنه يأتي بعبادات غير ما شرعه توصل الى مقصوده وهذا الظن وقع فيه طوائف من النظار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر كما وقع في الظن الاول طوائف من العباد الغالطين أصحاب الارادة والمحبة والزهد وقوله ﷺ في خطبته يوم الجمعة خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة يتناول هذا وهذا وقد أرى الله تعالى عباده الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى تبين لهم أن ما قاله هو حق فأن أرباب العبادة والمحبة والارادة والزهد الذين سلكوا غير ما أمروا به ضلوا كما ضلت النصارى ومبتدعة هذه الأمة من العباد وأرباب النظر والاستدلال الذين سلكوا غير دليله وبيانه أيضا ضلوا قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد أصول الاسلام أربعة دال ودليل ومبين ومستدل فالدال هو الله والدليل هو القرآن والمبين هو الرسول قال الله تعالى لتبين للناس ما نزل اليهم والمستدل هم أولو العلم وأولو الألباب الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وقد ذكره ابن المنى عن أحمد وهو مذكور في العدة للقاضي أبي يعلى وغيرها إما أن أحمد قال له أو قيل له فاستحسنه ولهذا صار كثير من النظار يوجبون العلم والنظر والاستدلال وينهون عن التقليد ويقول كثير منهم إن ايمان المقلد لا يصح أو أنه وان صح لكنه عاص بترك الاستدلال ثم النظر والاستدلال الذي يدعون إليه ويوجبونه ويجعلونه أول الواجبات وأصل العلم هو نظر واستدلال ابتدعوه ليس هو المشروع لا خبرا ولا أمرا وهو استدلال فاسد لا يوصل الى العلم فانهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام والاستدلال على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض لا تخلو عنا ولا تنفك منها ثم استدلوا على حدوث الاعراض قالوا فثبت أن الأجسام مستلزمة للحوادث لا تخلو عنها فلا تكون مثلها ثم كثير منهم قالوا وما لم يخل من الحوادث أو ما لم يسبق الحوادث فهو حادث وظن أن هذه مقدمة بديهية معلومة بالضرورة لا يطلب عليها دليل وكان ذلك بسبب أن لفظ الحوادث يشعر بان لها ابتداء كالحادث المعين والحوادث المحدودة ولو قدرت ألف ألف ألف حادث فإن الحوادث اذا جعلت مقدرة محدودة فلا بد أن يكون لها ابتداء فإن مالا ابتداء له ليس له حد معين ابتدأ منه اذ قد قيل لا ابتداء له بل هو قديم أزلي دائم ومعلوم أن هذه الحوادث مالم يسبقها فهو حادث فإنه يكون إما معها وإما بعدها وكثير منهم يفطن للفرق بين جنس الحوادث وبين الحوادث المحدودة فالجنس مثل أن يقال ما زالت الحوادث توجد شيئا بعد شيء أو ما زال جنسها موجودا أو ما زال الله متكلما اذا شاء او ما زال الله فاعلا لما يشاء أو ما زال قادرا على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور فان هذه في الحقيقة ليست قدرة ومثل أن يقال في المستقبل لا بد أن الله يخلق شيئا بعد شيء ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول ولا ينفد وقد يقال في النوعين كلمات الله لا تنفذ ولا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ونحو ذلك فالكلام في دوام الجنس وبقائه وأنه لا ينفد ولا ينقضي ولا يزول ولا ابتداء له غير الكلام فيما يقدر محدودا له ابتداء أوله ابتداء وانتهاء فإن كثيرا من النظار من يقول جنس الحوادث إذا قدر له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء لأنه يمكن فرض تقدمه على ذلك الحد فيكون أكثر مما وجد ومالا يتناهى لا يدخله التفاضل فإنه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها بخلاف مالا ابتداء له ولا انتهاء فإن هذا لا يكون شيء فوقه فلا يفضي الى التفاضل فيما لا يتناهى وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كل مكلف وأنه من لم ينظر في هذا الدليل فاما أنه لا يصح إيمانه فيكون كافرا على قول طائفة منهم وإما أن يكون عاصيا على قول آخرين وأما إن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص والأقوال الثلاثة باطلة لأنها مفرعة على أصل باطل وهو أن النظر الذي هو أصل الدين والايمان هو هذا النظر في هذا الدليل فان علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهدا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الايمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وقال أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى

وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله وبالآخرة هم يوقنون وقوله أولئك على هدى من ربهم وقوله قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وأمثال ذلك فتبين أن هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه اذ قد يكون المطلوب أدلة كثيرة ولهذا طعن الرازي وأمثاله على أبي المعالي في قوله إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق وقالوا هب أنه يدل على حدوث العالم فمن أين يجب أن لا يكون ثم طريق آخر وسلكوا هم طرقا أخر فلو كانت هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم تتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والاجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فاذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي ﷺ قبل أن ينزل سائر القرآن فالدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء ايجاب سلوك هذه الطريق مع تسليمهم أنها صحيحة كالخطابي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم والأشعري نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضا في رسالته إلى أهل الثغر مع اعتقاده صحتها واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمى باللمع في الرد على أهل البدع وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحا كثيرة والقاضي أبو بكر شرحه ونقض كتاب عبد الجبار الذي صنفه في نقضه وسماه نقض نقض اللمع وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول وانه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به الرسول مع مخالفة صريح المعقول كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية ومن تبعهم من الطوائف وان لم يعرفوا غورها وحقيقتها فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في مخالفة الشرع والعقل فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته اذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته وأسماؤه مستلزمة لصفاته فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى والمعتزلة استعظموا نفي الاسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فانهم لم يثبتوا في نفس الامر شيئا قديما البتة كما أن المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الامكان والوجوب وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم لم يثبتوا واجبا بنفسه البتة وظهر بهذا فساد عقلهم وعظيم جهلهم مع الكفر وذلك أنه يشهد وجود السماوات وغيرها فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب وان كانت ممكنة أو محدثة فلا بد لها من واجب قديم فإن وجود الممكن بدون الواجب والمحدث بدون القديم ممتنع في بدائه العقول فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كل تقدير فاذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقا ونفي الواجب علم أنه باطل وقد بسط هذا في مواضع وبين أن كل من نفى صفة مما أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات فلا يمكن القول بموجب أدلة العقول إلا مع القول بصدق الرسول فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول بل من كذبه فليس معه لا عقل ولا سمع كما أخبر الله تعالى عن أهل النار قال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بل قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وهذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين فان اثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الاسماء المشتقة كاسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الاسماء وقالوا ليست أعراضا لان العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الإعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فانما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الامور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنه كان يذم الكلابية وأنه أمر بهجر الحارث المحاسبي لما بلغه أنه على قول ابن كلاب وكان يقول حذروا عن حارث الفقير فإنه جهمي واشتهر هذا عن أحمد وكان بنيسابور طائفة من الجهمية والمعتزلة ممن يقولون إن القرآن وغيره من كلام الله مخلوق ويطلقون القول بأنه متكلم بمشيئته وقدرته لكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما بائنا عنه قائما بغيره كسائر المخلوقات وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب فاراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه فأطلعه على حقيقة قولهم فنفر منه وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب واعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث بناء على هذه الطريقة طريقة الإعراض وابن خزيمة شيخهم وهو الملقب بإمام الأئمة وأكثر الناس معه ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع فاحتاجوا لذلك الى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابية وبين أهل الحديث والسنة فذكروا فيها أن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يزل متكلما وأن فعله أيضا غير مخلوق فالمفعول مخلوق ونفس فعل الرب له قديم غير مخلوق وهذا قول الحنفية وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره وبسط هذا له موضع آخر والمقصود التنبيه على افتراق الامة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كاصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فانكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لن يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما اذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر

والمقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والايمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل التي انفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها فذمهم للجهمية الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولا متواتر مشهور قد صنف فيه مصنفات وذمهم للكلام والمتكلمين مما عني به أهل هذه الطريقة كذم الشافعي لحفص الفرد الذي كان على قول ضرار بن عمرو وذم أحمد بن حنبل لأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي كان على قول حسين النجار وذمهما وذم أبي يوسف ومالك وغيرهم لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة وقد صنف في ذم الكلام وأهله مصنفات أيضا وهو متناول لاهل هذه الطريقة قطعا فكان ايجاب النظر بهذا التفسير باطلا قطعا بل هذا نظر فاسد يناقض الحق والايمان ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة من حذاق الطوائف يتبين لهم فسادها كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما ثم الذي يتبين له فسادها إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائرا مضطربا والقائلون بقدم العالم من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم تبين لهم فسادها فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل فيبطلون قول هؤلاء إنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن ويثبتون وجوب دوام نوع الحوادث ويظنون أنهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم وهم أضل وأجهل من أولئك فإن أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم بل كل ما سوى الله فهو محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة وأن كان الفاعل لم يزل فاعلا لما يشاء ومتكلما بما يشاء وصار كثير من أولئك إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين وليس عنده إلا قولهم وقول هؤلاء يميل الى قول هؤلاء الملاحدة ثم قد يبطن ذلك وقد يظهره لمن يأمنه وابتلى بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف وصاروا يظهرون هذا في قالب المكاشفة ويزعمون أنهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان فأخذوا من نفي الصفات أن صانع العالم لا داخل العالم ولا خارجه ومن قول هؤلاء أن العالم قديم ولم يروا موجودا سوى العالم فقالوا إنه هو الله وقالوا هو الوجود المطلق والوجود واحد وتكلموا في وحدة الوجود وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل وصار حقيقة قولهم الكفر بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيع

لكن أولئك لما كان ظاهر قولهم هو ذم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقا كثيرا لم يعرفوا باطن أمرهم وهؤلاء صاروا ينتسبون الى المعرفة والتوحيد وأتباع شيوخ الطريق كالفضيل وابراهيم بن أدهم والتستري والجنيد وسهل بن عبد الله وأمثال هؤلاء ممن له في الامة لسان صدق فاغتر بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلاقا لهؤلاء المشايخ السادة ولمن هو أفضل منهم من السابقين الاولين والانبياء المرسلين وكان من أسباب ذلك أن العبادة والتأله والمحبة ونحو ذلك مما يتكلم فيه شيوخ المعرفة والتصوف أمر معظم في القلوب والرسل إنما بعثوا بدعاء الخلق الى أن يعرفوا الله ويكون أحب إليهم من كل ما سواه فيعبدوه ويألهوه ولا يكون لهم معبود مألوه غيره وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوبا أو أنه يحب شيئا أو يحبه أحد وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبودا فان الآله هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويعبد والتأله والتعبد يتضمن غاية الحب بغاية الذل ولكن غلط كثير من أولئك فظنوا أن الآلهية هي القدرة على الخلق وإن الآله بمعنى الآله وإن العباد يألههم الله لا أنهم هم يألهون الله كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعري وغيره وطائفة ثالثة لما رأت ما دل على أن الله يحب أن يكون محبوبا من أدلة الكتاب والسنة وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة صاروا يقرون بأنه محبوب لكنه هو نفسه لا يحب شيئا إلا بمعنى المشيئة وجميع الاشياء مرادة له فهي محبوبة له وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث كأبي إسماعيل الأنصاري وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربي وحقيقة هذا القول أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضاه وهذا هو المشهور من قول الأشعري وأصحابه وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك وكذلك ذكر ابن عقيل أن أول من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعري وأصحابه وهم قد يقولون لا يحبه دينا ولا يرضاه دينا كما يقولون لا يريد أن يكون فاعله مأجورا وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات فإنها عندهم محبوبة له إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق فهو عندهم محبوب مرضي

وجماهير المسلمين يعرفون أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل وان المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن الله لا يحب الشرك ولا تكذيب الرسل ولا يرضى ذلك بل هو يبغض ذلك ويمقته ويكرهه كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرمات ثم قال كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها وبسط هذه الأمور له مواضع أخر والمقصود هنا أن الذين اعرضوا عن طريق الرسول في العلم والعمل وقعوا في الضلال والزلل وأن أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه صارت فروعه فاسدة اذ قالوا ان من لم يسلكها كفر أو عصى فقد عرف بالاضطرار من دين الاسلام أن الصحابة والتابعين لهم باحسان لم يسلكوا طريقهم وهم خير الامة وإن قالوا ان من قاله ليس عنده علم ولا بصيرة بالايمان بل قاله تقليدا محضا من غير معرفة يكون مؤمنا فالكتاب والسنة يخالف ذلك ولو أنهم سلكوا طريقة الرسول لحفظهم الله من هذا التناقض فان ما جاء به الرسول جاء من عند الله وما ابتدعوه جاءوا به من عند غير الله وقد قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثير وهؤلاء بنوا دينهم على النظر والصوفية بنوا دينهم على الارادة وكلاهما لفظ مجمل يدخل فيه الحق والباطل فالحق هو النظر الشرعي والارادة الشرعية فالنظر الشرعي هو النظر فيما بعث به الرسول من الآيات والهدى كما قال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان والارادة الشرعية إرادة ما أمر الله به ورسوله والسماع الشرعي سماع ما أحب الله سماعه كالقرآن والدليل الذي يستدل به هو الدليل الشرعي وهو لذي دل الله به عباده وهداهم به الى صراط مستقيم فانه لما ظهرت البدع والتبس الحق بالباطل صار اسم النظر والدليل والسماع والارادة يطلق على ثلاثة أمور منهم من يريد به البدعي دون الشرعي فيريدون بالدليل ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة والنظر فيها ومن السماع والارادة ما ابتدعوه من اتباع ذوقهم ووجدهم وما تهواه أنفسهم وسماع الشعر والغناء الذي يحرك هذا الوجد التابع لهذه الارادة النفسانية التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله ومنهم من يريد مطلق الدليل والنظر ومطلق السماع والارادة من غير تقييدها لا بشرعي ولا ببدعي فهؤلاء يفسرون قوله الذين يستمعون القول بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء ويستمعون الى هذا وهذا وأولئك يفسرون الارادة بمطلق المحبة للآله من غير تقييدها بشرعي ولا بدعي ويجعلون الجميع من أهل الارادة سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول أو كان عابدا للشيطان مشركا عابدا بالبدع وهؤلاء أوسطهم وهم أحسن حالا من الذين قيدوا ذلك بالبدعي وأما القسم الثالث فهم صفوة الامة وخيارها المتبعون للرسول علما وعملا يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله وتدبر القرآن وما فيه من البيان ويدعون إلى المحبة والارادة الشرعية وهي محبة الله وحده وارادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله فهم لا يعبدون إلا الله ويعبدونه بما شرع وأمر ويستمعون ما أحب استماعه وهو قوله الذي قال فيه أفلم يدبروا القول وهو الذي قال فيه فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه كما قال واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقال وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها

سبحانه بين القدرة على الابتداء كقوله إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم الآية ومثل قوله ويقول الانسان أإذا مامت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا الآية ومثل قوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وغير ذلك

فالاستدلال على الخالق بخلق الانسان في غاية الحسن والاستقامة وهي طريقة عقلية صحيحة وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس اليها وبينها وأرشد اليها وهي عقلية فان نفس كون الانسان حادثا بعد أن لم يكن ومولودا ومخلوقا من نطفة ثم من علقة هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم سواء أخبر به الرسول أو لم يخبر لكن الرسول أمر أن يستدل به ودل به وبينه واحتج به فهو دليل شرعي لان الشارع استدل به وأمر أن يستدل به وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته وكثير من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع أو بالعقل لا يسلكونه وهو عقلي شرعي وكذلك غيره من الادلة التي في القرآن مثل الاستدلال بالسحاب والمطر هو مذكور في القرآن في غير موضع وهو عقلي شرعي كما قال تعالى أولم يروا أنا نسوق الماء الى الارض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسم أفلا يبصرون فهذا مرئي بالعيون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فالآيات التي يريها الناس حتى يعلموا أن القرآن حق هي آيات عقلية يستدل بها العقل على أن القرآن حق وهي شرعية دل الشرع عليها وأمر بها والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل وهي شرعية لان الشرع دل عليها وأرشد اليها ولكن كثيرا من الناس لا يسمي دليلا شرعيا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول وهو اصطلاح قاصر ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والاجماع والكتاب يريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط والمقصود من أصول الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية فيجعلون الادلة الشرعية ما دلت على الاحكام العملية فقط ويخرجون ما دل باخبار الرسول عن أن يكون شرعيا فضلا عما دل بارشاده وتعليمه ولكن قد يسمون هذا دليلا سمعيا ولا يسمونه شرعيا وهو اصطلاح قاصر والأحكام العملية أكثر الناس يقولون إنها تعلم بالعقل أيضا وأن العقل قد يعرف الحسن والقبح فتكون الادلة العقلية دالة على الأحكام العملية أيضا ويجوز أن تسمى شرعية لأن الشرع قررها أو وافقها أو دل عليها وأرشد اليها كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبرية كاثبات الرب ووحدانيته وصدق رسله وقدرته على المعاد ان الشرع دل عليها وأرشد اليها وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الاشعري بنى أصول الدين في اللمع ورسالة الثغر على كون الانسان مخلوقا محدثا فلا بد له من محدث لكون هذا الدليل مذكورا في القرآن فيكون شرعيا عقليا لكنه في نفس الامر سلك في ذلك طريقة الجهمية بعينها وهو الاستدلال على حدوث الانسان بأنه مركب من الجواهر الفردة فلم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فجعل العلم بكون الانسان محدثا وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثا انما يعلم بهذه الطريقة وهو أنه مؤلف من الجواهر الفردة وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق وتلك أعراض حادثة وما لم ينفك من الحوادث فهو محدث وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء فانهم أنكروا المعلوم بالحس والمشاهدة والضرورة العقلية من حدوث المحدثات المشهود حدوثها وادعوا أنه إنما يشهد حدوث أعراض لا حدوث أعيان مع تنازعهم في الأعراض ثم قالوا والأجسام لا تخلوا من الأعراض وهذا صحيح ثم قالوا والأعراض حادثة فاضطربوا هنا ثم قالوا وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وهذا أصل دينهم وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل كما قد بسط في غير هذا الموضع

والمتفلسفة أشد مخالفة للعقل والسمع منهم لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقلية فاستطالوا عليهم بذلك وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب كما قد بسط في موضع آخر فلبسوا هذا الباطل بالحق الذي جاء به الرسول وهو الاستدلال بحدوث الانسان وغيره من المحدثات التي يشهد حدوثها فصار في كلامهم حق وباطل من جنس ما أحدثه أهل الكتاب حيث لبسوا الحق بالباطل واحتاجوا في ذلك الى كتمان الحق الذي جاء به الرسول الذي يخالف ما أحدثوه فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول بل يمنعون عن قراءة الاحاديث وسماعها وقراءة كلام السلف وسماعه ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه والذين لا يقدرون على المنع من ذلك صاروا يقرءون حروفه ولا يعلمون حدود ما انزل الله على رسوله بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم ممن يحرفون الكلم كلم الله عن مواضعه والاصل العقلي الحسي الذي به فارقوا العقل والسمع هو حدوث ما يشهد حدوثه مثل حدوث الزرع والثمار وحدوث الانسان وغيره من الحيوان وحدوث السحاب والمطر ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها غير حدوث الاعراض كالحركة والحرارة والبرودة والضوء والظلمة وغير ذلك بل تلك الأعيان التي يسمونها أجساما وجواهر هي حادثة فانه معلوم أن الانسان مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وأن الثمار تخلق من الاشجار وأن الزرع يخلق من الحب والشجر يخلق من النوى قال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكما ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره اذا أثمر وينعه ان في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون فهذا الانسان والشجر والزرع المخلوق من مادة قد خلق منها عين قائمة بنفسها وهم يقولون إنما هي من الجسم القائم بنفسه وهو الجوهر العام في اصطلاحهم الذي يقولون إنه مركب من الجواهر الفردة وهل الذي خلق من المادة هو أعيان أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها وأما الأعيان فهي الجواهر الفردة وتلك منها شيء في هذه الحوادث ولكن أحدث فيها جمع وتفريق فكان خلق الانسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر وأحداث هذا التركيب لا أحداث تلك الجواهر وأما حدوث تلك الجواهر فانما يعلم بالاستدلال فيستدل عليه بأن الجواهر التي تركبت منها هذه الأجسام لا تخلو من اجتماع وافتراق والاجتماع والافتراق حادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث فهذه طريق هؤلاء الجهمية أهل الكلام المحدث وأما جمهور العقلاء فيقولون بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها لا نقول إنه لم يحدث إلا عرض فان هذا القول يقتضي أن تلك الجواهر التي ركب منها آدم باقية لم يزل في كل آدمي منها شيء وهذا مكابرة فان بدن آدم لا يحتمل هذا كله لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته لا سيما وكل آدمي إنما خلق من مني أبويه وهم يقولون تلك الجواهر التي في مني الابوين باقية بأعيانها في الولد وهم يقولون إن الجواهر لا تفنى بل تنتقل من حال الى حال وكثير منهم يقول إنها مستغنية عن الرب بعد أن خلقها وتحيروا فيما إذا أراد أن يفنيها وكيف يفنيها كما قد ذكر في غير هذا الموضع اذ المقصود هنا التنبيه على أن أصل الاصول معرفة حدوث الشيء من الشيء كحدوث الانسان من المني فهؤلاء ظنوا أنه لا يحدث إلا الأعراض ولهذا لما ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه الكبار والصغار الطرق الدالة على إثبات الصانع لم يذكر طريقا صحيحا وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع بل عدلوا عن الطرق العقلية التي يعلمها العقلاء بفطرتهم وهي التي دلتهم عليها الرسل الى طرق سلكوها مخالفة للشرع والعقل لا سيما من سلك طريقة الوجوب والامكان متابعة لابن سينا كالرازي فان هؤلاء من أفسد الناس استدلالا كما قد ذكرنا طرق عامة النظار في غير هذا الموضع مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل وغير ذلك والمقصود هنا أن الرازي ذكر أن ما يستدل به على إثبات الصانع إما حدوث الأجسام وإما حدوث صفاتها وإما إمكانها وإما إمكان صفاتها وذكر في بعض المواضع وإما الأحكام والإتقان لكن الإحكام والإتقان يدل على العلم ابتداء والاستدلال بحدوث الاجسام وإمكانها وإمكان صفاتها طرق فاسدة فان دلالة حدوثها مبنية على امتناع حوادث لا أول لها ودلالة إمكانها مبنية على ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مركب ودلالة صفاتها مبنية على تماثلها فلا بد لتخصيص بعضها بالصفات من مخصص وهذه كلها طرق باطلة قال وأما الاستدلال بحدوث الصفات فهو الاستدلال بحدوث الأعراض وهذه الطريق أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة فان مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان وإنما علموا حدوث بعض الصفات وهذا يدل على أنه لا بد لها من محدث قال وهذا لا ينفي كون المحدث جسما بخلاف تلك الطرق وهذه الطريق تدل على أن الأعراض كتركيب الانسان لا بد له من مركب ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر بل يجوز أن يكون جميع جواهر الانسان وغيره قديمة أزلية لكن حدثت فيها الأعراض ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الرب بعض أجسام العالم وتلك باطلة مع أن مضمونها أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات فهي لا تدل على صانع وإن دلت على صانع فليس بموجود بل معدوم أو متصف بالوجود والعدم كما قد بسط في غير موضع ولهذا يقول الرازي في آخر مصنفاته لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدوث الصفات كالحيوان والنبات والمطر ذكر أن هذه طريقة القرآن ولا ريب أن القرآن يذكر فيه الاستدلال بآيات الله كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وهذا مذكور بعد قوله وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقبل قوله ومن الناس من يتخذ من دونه أندادا يحبونهم كحب الله لكن القرآن لم يذكر أن هذه صفات حادثة وأنه ليس فيها أحداث عين قائمة بنفسها بل القرآن يبين أن في خلق الأعيان القائمة بنفسها آيات ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وهي أعيان ثم قال وما أنزل الله من السماء من ماء والماء عين قائمة بنفسها وقوله فأحيا به الأرض بعد موتها هو بما يخلقه فيها من النبات وهو أعيان وكذلك قوله وبث فيها من كل دابة وقوله وتصريف الرياح فالرياح أعيان وتصريفها أعراض وقوله والسحاب المسخر بين السماء والارض والسحاب أعيان لآيات لقوم يعقلون

وقد تقدم أن أصل الاشتباه في هذا أن خلق الشيء من مادة هل هو خلق عين أم إحداث اجتماع وافتراق وأعراض فقط والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال

فالقائلون بالجواهر الفردة من أهل الكلام القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر الى حد لا يتميز منها جانب عن جانب يقولون تلك الجواهر باقية تنقلت في الحوادث ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر ثم الاستدلال بذلك على المحدث غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدث لها فتلك هي طريقة الجهمية المشهورة وهي التي سلكها الأشعري في كتبه كلها متابعة للمعتزلة ولهذا قيل الأشعرية مخانيت المعتزلة

مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية

  مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية ( وهي من أعظم ما تصدى له وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه م...