ج5.
التاسع أن يقال آيات الانبياء لا تكون إلا خارقة للعادة ولا تكون مما يقدر أحد على معارضتها فاختصاصها بالنبي وسلامتها عن المعارضة شرط فيها بل وفي كل دليل فانه لا يكون دليلا حتى يكون مختصا بالمدلول عليه ولا يكون مختصا إلا اذا سلم عن المعارضة فلم يوجد مع عدم المدلول عليه مثله وإلا اذا وجد هو أو مثله بدون المدلول لم يكن مختصا فلا يكون دليلا لكن كما أنه لا يكفي مجرد كونه خارقا بعادة أولئك القوم دون غيرهم فلا يكفي أيضا عدم معارضة أولئك القوم بل لا بد أن يكون مما لم يعتده غير الانبياء فيكون خارقا لعادة غير الانبياء فمتى عرف أنه يوجد لغير الانبياء بطلت دلالته ومتى عارض غير النبي النبي بمثل ما أتى به بطل الاختصاص وما ذكره المعتزلة وغيرهم كابن حزم من أن آيات الانبياء مختصة بهم كلام صحيح لكن كرامات الاولياء هي من دلائل النبوة فانها لا توجد إلا لمن اتبع النبي الصادق فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب وأما ما يأتي به السحرة والكهان من العجائب فتلك جنس معتاد لغير الانبياء وأتباعهم بل الجنس معروف بالكذب والفجور فهو خارق بالنسبة الى غير أهله وكل صناعة فهي خارقة عند غير أهلها ولا تكون آية وآيات الانبياء هي خارقة لغير الانبياء وان كانت معتادة للانبياء
العاشر أن آيات الانبياء خارجة مقدور من أرسل الانبياء اليه وهم الجن والانس فلا تقدر الانس والجن أن يأتوا بمثل معجز الانبياء كما قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك فان الملائكة انما تنزل على الانبياء لا تنزل على السحرة والكهان كما أن الشياطين لاتتنزل على الانبياء والملائكة لا تكذب على الله فاذا كانت الآيات من أفعال الملائكة مث أخبارهم للنبي عن الله بالغيب ومثل نصرهم له على عدوه وإهلاكهم له نصرا وهلاكا خارجين عن العادة كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره وكما فعلت بقوم لوط وكما فعلت بمريم والمسيح ونحو ذلك وكاتيانهم لسليمان بعرش بلقيس فقد روي أن الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجن لم يكن هذا خارجا عما اعتاده الانبياء بل هذا ليس لغير الانبياء فلا يقال ان غير الانبياء اعتادوه فنقضت عادتهم بل هذا لم يعتده إلا الانبياء وهو مناقض لجنس عادات الآدميين بمعنى انه لا يوجد فيما اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الانبياء كما اعتادوا العجائب من السحر والكهانة والصناعات العجيبة وما يستعينون عليه بالجن والانس والقوى الطبيعية مثل الطلاسم وغيرها فكل هذا معتاد معروف لغير الانبياء وهؤلاء جعلوا الطلاسم من جنس المعجزات وقالوا لو أتى بها نبي لكانت آية له واذا أتى بها من لم يدع النبوة جاز وان ادعاها كاذب سلبه الله علمها أو قيض له من يعارضه وهذا قول قبيح فانه لو جعل شيء من معجزات الانبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر أو كاهن أو مطلسم أو مخدوم من الجن لاستوى الجنسان ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء ولم يتميز بذلك النبي من غيره وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبي وخصائص آياته كما أن المتفلسفة أبعد منهم عن الايمان فجعلوا للنبوة ثلاث خصائص حصول العلم بلا تعلم وقوة نفسه المؤثرة في هيولي العالم وتخيل السمع والبصر وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس ولم يفرقوا بين النبي والساحر إلا بأن هذا بر وهذا فاجر والقاضي أبو بكر وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعيا والفرق الذي لا بد منه عندهم الاستدلال بها والتحدي بالمثل وكل من هؤلاء وهؤلاء أدخلوا مع الانبياء من ليس بنبي ولم يعرفوا خصائص الانبياء ولا خصائص آياتهم فلزمهم جعل من ليس بنبي نبيا أو جعل النبي ليس بنبي اذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركا بين الانبياء وغيرهم فمن ظن أنه يكون لغير الانبياء قدح في الانبياء أن يكون هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي ومن ظن أنه لا يكون إلا لنبي إذا رأى من فعله من متنبئ كاذب وساحر وكاهن ظن أنه نبي والايمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والايمان والكفر ولم يميز بين الخطأ والصواب ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء وهؤلاء من المتأخرين مثل أبي حامد والرازي والآمدي وأمثالهم هذا ونحوه مبلغ علمهم بالنبوة لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها فلا يستدلون بها على الامور العلمية الخبرية وهي خاصة النبي وهو الاخبار عن الغيب والانباء به فلا يستدلون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يقطع بها بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم كما قال الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
الوجه الحادي عشر أن آيات الانبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الانبياء وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم وذلك مثل تغريق الله لجميع أهل الأرض إلا لنوح ومن ركب معه في السفينة فهذا لم يكن قط في العالم نظيره وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد مع كثرتهم وقوتهم وعظم عماراتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوما حتى صاروا كلهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ونجا هود ومن اتبعه فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم صالح أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين أهلكوا كلهم بصيحة واحدة فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم لوط أصحاب مدائن متعددة رفعت الى السماء ثم قلبت بهم وأتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذهم ونجا لوط وأهله إلا امرأته أصابها ما أصابهم فهذا لم يوجد نظيره في العالم وكذلك قوم فرعون وموسى جمعان عظيمان ينفرق لهم البحر كل فرق كالطود العظيم فيسلك هؤلاء ويخرجون سالمين فاذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء فهذا لم يوجد نظيره في العالم فهذه آيات تعرف العقلاء عموما أنها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم وقد يحصل لبعض الناس طاعون ولبعضهم جدب ونحو ذلك وهذا مما اعتاده الناس وهو من آيات الله من وجه آخر بل كل حادث من آيات الله تعالى ولكن هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد وكذلك الكعبة فانها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع ليس عندها أحد يحفظها من عدو ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها فليس عندها رغبة ولا رهبة ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة فكل من يأتيها يأتيها خاضعا ذليلا متواضعا في غاية التواضع وجعل فيها من الرغبة أن يأتيها الناس من أقطار الارض محبة وشوقا من غير باعث دنيوي وهي على هذه الحال من ألوف من السنين وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها والملوك ينبون القصور العظيمة فتبقى مدة ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله عى طول الزمان وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس والكعبة لها خاصة ليست لغيرها وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم فانهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك وأن ما بني وبقي فقد بني بطالع سعيد فحاروا في طالع الكعبة اذ لم يجدوا في الاشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير الى جهتها واذا وجهوه الى غير جهتها توجه ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجا بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم فآيات الانبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم والدليل يجب أن يكون مختصا بالمدلول عليه لا يوجد مع عدمه لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول كما أن الحادث لا بد له من محدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث ولا يكون المحدث إلا قادرا فيمتنع وجود الاحداث من غير قادر والفعل لا يكون الا من عالم ونحو ذلك فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقا ولم يجعلوا آيات الانبياء تدل دلالة عقلية مستلزمة للمدلول ولا تدل بجنسها ونفسها بل قال بعضهم قد تدل وقد لا تدل وقال آخرون تدل مع الدعوى ولا تدل مع عدم الدعوى وهذا يبطل كونها دليلا وآخرون أرادوا تحقيق ذلك فقالوا تدل دلالة وضعية من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم تدل إن قصد الدلالة ولا تدل بدون ذلك فهي تدل مع الوضع دون غيره فيقال لهم وما يدل على قصد المتكلم هو أيضا دليل مطرد يمتنع وجوده بدون المدلول ودلالته تعلم بالعقل فجميع الادلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول فان ذلك اللفظ إنما يدل اذا علم أن المتكلم أراد به هذا المعنى وهذا قد يعلم ضرورة وقد يعلم نظرا فقد يعلم قصد المتكلم بالضرورة كما يعلم أحوال الانسان بالضرورة فيفرق بين حمرة الخجل وصفرة الوجل وبين حمرة المحموم وصفرة المريض بالضرورة وقد يعلم نظرا واستدلالا كما يعلم أن عادته إذا قال كذا أن يريد كذا وانه لا ينقض عادته إلا اذا بين ما يدل على انتقاضها فيعلم هذا كما يعلم سائر العاديات مثل طلوع الشمس كل يوم والهلال كل شهر وارتفاع الشمس في الصيف وانخفاضها في الشتاء ومن هذا سنة الله في الفرق بين الانبياء وأتباعهم وبين مكذبهم قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقال تعالى فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد فان هذه العجائب والآيات التي للانبياء تارة تعلم بمجرد الاخبار المتواترة وان لم نشاهد شيئا من آثارها وتارة تشاهد بالعيان آثارها الدالة على ما حدث كما قال تعالى وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وقال تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا وقال تعالى وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وقال تعالى ان في ذلك لآيات للمتوسمين وانها لبسبيل مقيم ان في ذلك لأية للمؤمنين وان كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وانهما لبامام مبين أي لبطريق موضح متبين لمن مر به آثارهم وهذا الاخبار كانت منتشرة متواترة في العالم وقد علم الناس أنها آيات للانبياء وعقوبة لمكذبيهم لهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار كما قال مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف مثل يوم الآخرة مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد وقال شعيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد والقرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول تتلى آيات التحدي به ويتلى قوله فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين فأتوا بعشر سور مثله وبسورة من مثله ويتلى قوله قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الامر وقطعه بذلك مع علمه بكثرة الخلق دليل على أنه كان خارقا يعجز الثقلين عن معارضته وهذا لا يكون لغير الانبياء ثم مع طول الزمان قد سمعه الموافق والمخالف والعرب والعجم وليس في الامم من أظهر كتابا يقرأه الناس وقال انه مثله وهذا يعرفه كل أحد وما من كلام تكلم به الناس وان كان في أعلى طبقات الكلام لفظا ومعنى إلا وقد قال الناس نظيره وما يشبهه ويقاربه سواء كان شعرا أو خطابة أو كلاما في العلوم والحكمة والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك وما وجد من ذلك شيء إلا ووجد ما يشبهه ويقاربه والقرآن مما يعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته فلفظه آية ونظمه آية وإخباره بالغيوب آية وأمره ونهيه آية ووعده ووعيده آية وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية واذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم واذا قيل إن التوراة والإنجيل والزبور لم يوجد لها نظير أيضا لم يضرنا ذلك فإنا قلنا إن آيات الانبياء لا تكون لغيرهم وان كانت لجنس الانبياء كالإخبار بغيب الله فهذه آية يشتركون فيها وكذلك إحياء الموتى قد كان آية لغير واحد من الانبياء غير المسيح كما كان ذلك لموسى وغيره وليس المقصود هنا ذكر تفضيل بعض الانبياء على بعض بل المقصود أن جنس الانبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء أنها لم توجد لغيرهم فيعلمون أنها ليست لغيرهم لاعادة ولا خرق عادة بل اذا عبر عنها بأنها خرق عادة وبأنها من العجائب فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره وخارق العادة ما خرج عن الامر المعتاد فالمراد بذلك أنها خارجة عن الامر المعتاد لغير الانبياء وأنها من العجائب الخارجة عن النظائر فلا يوجد نظيرها لغير الأنبياء واذا وجد نظيرها سواء كان أعظم منها أو دونها لنبي فذلك توكيد لها أنها من خصائص الانبياء فان الانبياء يصدق بعضهم بعضا فآية كل نبي لجميع الانبياء كما أن آيات أتباعهم آيات لهم أيضا وهذا أيضا من آيات الانبياء وهو تصديق بعضهم لبعض فلا يوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون بغير الانبياء كالسحرة والكهنة واهل الطبائع والصناعات الا من يخالف بعضهم بعضا فيما يدعو اليه ويأمر به ويعادي بعضهم بعضا وكذلك أتباعهم اذا كانوا من أهل الاستقامة فما أتى به الاول من الآيات فهو دليل على نبوته ونبوة من يبشر به وما أتى به الثاني فهو دليل على نبوته ونبوة من يصدقه ممن تقدم فما أتى به موسى والمسيح وغيرهما من الآيات فهي آيات لنبوة محمد لإخبارهم بنبوته فكان هذا الخبر مما دلت آياتهم على صدقه وما أتى به محمد من الآيات فهو دليل على إثبات جنس الانبياء مطلقا وعلى نبوة كل من سمي في القرآن خصوصا اذا كان هذا مما أخبر به محمد ﷺ عن الله ودلت على صدقه فيما يخبر به عن الله وحينئذ فاذا قدر أن التوراة أو الانجيل أو الزبور معجز لما فيه من العلوم والإخبار عن الغيوب والامر والنهي ونحو ذلك لم ينازع في ذلك بل هذا دليل على نبوتهم صلوات الله عليهم وعلى نبوة من أخبروا بنبوته ومن قال إنها ليست بمعجزة فان أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم كالقرآن فهذا ممكن وهذا يرجع فيه الى أهل اللغة العبرانية وأما كون التوراة معجزة من حيث المعاني لما فيها من الإخبار عن الغيوب أو الأمر والنهي فهذا لا ريب فيه ومما يدل على أن كتب الانبياء معجزة ان فيها الإخبار بنبوة محمد ﷺ قبل أن يبعث بمدة طويلة وهذا لا يمكن علمه بدون إعلام الله لهم وهذا بخلاف من أخبر بنبوته من الكهان والهواتف فان هذا إنما كان عند قرب مبعثه لما ظهرت دلائل ذلك واسترقته الجن من الملائكة فتحدثت به وسمعته الجن من أتباع الانبياء فالنبي الثاني اذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبي الاول وقد وصل اليه من جهته لم يكن آية له فان العلماء يشاركونه في هذا وأما اذا أخبر بقدر زائد لم يوجد في خبر الأول او كان ممن لم يصل إليه خبر نبي غيره كان ذلك آية له كما يوجد في نبوة أشعيا وداود وغيرهما من صفات النبي مالا يوجد مثله في توراة موسى فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبي وكذلك فيها من الامر والنهي والوعد والوعيد ما لا يأتي به إلا نبي أو تابع نبي وما أتى أتباع الانبياء من جهة كونهم أتباعا لهم مثل أمرهم بما أمروا به ونهيهم عما نهوا عنه ووعدهم بما وعدوا به ووعيدهم بما يوعدون به فانه من خصائص الانبياء والكذاب المدعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الانبياء وينهى عن كل ما نهوا عنه فان ذلك يفسد مقصوده وهو كاذب فاجر شيطان من أعظم شياطين الانس والذي يعينه على ذلك من أعظم شياطين الجن وهؤلاء لا يتصور أن يأمروا بما أمرت به الانبياء وينهوا عما نهوا عنه لأن ذلك يناقض مقصودهم بل وان أمروا بالبغض في ابتداء الامر من يخدعونه ويربطونه فلا بد أن يناقضوا فيأمروا بما نهت عنه الانبياء ولا يوجبوا ما أمرت به الانبياء كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوة من الكذابين ولمن أظهر موافقة الانبياء وهو في الباطن من المنافقين كالملاحدة الباطنية الذين يظهرون الاسلام والتشيع ابتداء ثم إنهم يستحلون الشرك والفواحش والظلم ويسقطون الصلاة والصيام وغير ذلك مما جاءت به الشريعة فمن أظهر خلاف ما أبطن وكان مطاعا في الناس فلا بد أن يظهر من باطنه ما يناقض ما أظهره فكيف بمن ادعى النبوة وأظهر انه صادق على الله وهو في الباطن كاذب على الله بل من أظهر خلاف ما أبطن من آحاد الناس يظهر حاله لمن خبره في مدة فان الجسد مطيع للقلب والقلب هو الملك المدبر له كما قال ﷺ ألا ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب فاذا كان القلب كاذبا على الله فاجرا كان ذلك أعظم الفساد فلا بد أن يظهر الفساد على الجوارح وذلك الفساد يناقض حال الصادق على الله وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وذكر أن آيات الانبياء الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة وان النبي الصادق خير الناس والكاذب على الله شر الناس وبينهما من الفروق مالا يحصيه إلا الله فكيف يشتبه هذا بهذا بل لهذا من دلائل صدقه ولهذا من دلائل كذبه مالا يمكن إحصاؤه وكل من خص دليل الصدق بشيء معين فقد غلط بل آيات الانبياء هي من آيات الله الدالة على أمره ونهيه ووعده ووعيده وآيات الله كثيرة متنوعة كآيات وجوده ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته سبحانه وتعالى والقرآن مملوء من تفصيل آياته وتصريفها وضرب الامثال في ذلك وهو يسميها آيات وبراهين وقد ذكرنا الفرق بين الآيات والمقاييس الكلية التي لا تدل الا على أمر كلي في غير هذا الموضع
الوجه الثاني عشر أن ما يأتي به الساحر والكاهن وأهل الطبائع والصناعات والحيل وكل من ليس من أتباع الانبياء لا يكون إلا من مقدور الانس والجن فما يقدر عليه الانس من ذلك هو وأنواعه والحيل فيه كثير وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الانس وإنما يختلفون في الطريق فان الساحر قد يقدر على أن يقتل انسانا بالسحر أو يمرضه أويفسد عقله أو حسه وحركته وكلامه بحيث لا يجامع أو لا يمشي أو لا يتكلم ونحو ذلك وهذا كله مما يقدر الانس على مثله لكن بطرق أخرى والجن يطيرون في الهواء وعلى الماء ويحملون الأجسام الثقيلة كما قال العفريت لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وهذا الجنس يكون لمن هو دون الانس والجن من الحيوان كالطيور والحيتان والانس يقدر على جنسه ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبي لوجوده لغير الانبياء فكثير من الناس تحمله الجن بل شياطين الجن وتطير به في الهواء وتذهب به الى مكان بعيد كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن الى مكان بعيد ونحن نعرف من هؤلاء عددا كثيرا وليسوا صالحين بل فيهم كفار ومنافقون وفساق وجهال لا يعرفون الشريعة والشياطين تحملهم وتطير بهم من مكان الى مكان وتحملهم الى عرفات فيشهدون عرفات من غير إحرام ولا تلبية ولا طواف بالبيت وهذا الفعل حرام والجهال يحسبون أنه من كرامات الصالحين فتفعله الجن بمن يحب ذلك مكرا به وخديعة أو خدمة لمن يستخدمهم من هؤلاء الجهال بالشريعة وان كان له زهد وعبادة وكذلك الجن كثيرا ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس من طعام وشراب ونفقة وماء وغير ذلك وهو من جنس ما يسرقه الانسي ويأتي به الى الانسي لكن الجن تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبي وإنما كان النبي ﷺ يضع يده في الماء فينبع الماء من بين أصابعه وهذا لا يقدر عليه لا إنس ولا جن وكذلك الطعام القليل يصير كثيرا وهذا لا يقدر عليه لا الجن ولا الانس ولم يأت النبي ﷺ قط بطعام من الغيب ولا شراب وإنما كان هذا قد يحصل لبعض أصحابه كما أتى خبيب بن عدي وهو أسير بمكة بقطف من عنب وهذا الجنس ليس من خصائص الانبياء ومريم عليها السلام لم تكن نبية وكانت تؤتى بطعام فان هذا قد يكون من حلال فيكون كرامة يأتي به إما ملك وإما جني مسلم وقد يكون حراما فليس كل ما كان من آيات الانبياء يكون كرامة للصالحين وهؤلاء يسوون بين هذا وهذا ويقولون الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل وهذا غلط فان آيات الانبياء التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم مثل الاتيان بالقرآن ومثل الإخبار بأحوال الانبياء المتقدمين وأممهم والإخبار بما يكون يوم القيامة وأشراط الساعة ومثل إخراج الناقة من الأرض ومثل قلب العصا حية وشق البحر ومثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وتسخير الجن لسليمان لم يكن مثله لغيره لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق كما يعاون الانس بعضهم بعضا فإما طاعة مثل طاعة سليمان فهذا لم يكن لغير سليمان ومحمد ﷺ أعطي أفضل مما أعطي سليمان فانه أرسل الى الجن وأمروا أن يؤمنوا به ويطيعوه فهو يدعوهم الى عبادة الله وطاعته لا يأمرهم بخدمته وقضاء حوائجه كما كان سليمان يأمرهم ولا يقهرهم باليد كما كان سليمان يقهرهم بل يفعل فيهم كما يفعل في الانس فيجاهدهم الجن المؤمنون ويقيمون الحدود على منافقيهم فيتصرف فيهم تصرف العبد الرسول لا تصرف النبي الملك كما كان سليمان يتصرف فيهم والصالحون من أمته المتبعون له يتبعونه فيما كان يأمر به الانس والجن وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات كما قد يستخدمون بعض الانس وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم لا سيما ان كان بسبب غير مباح وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة من الظلم والفواحش فيقتلون نفوسا بغير حق ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة كما يحضرون لهم امرأة أو صبيا أو يجذبونه اليه وآخرون يستخدمونهم في الكفر فهذه الامور ليست من كرامات الصالحين فان كرامات الصالحين هو ما كان سببه الايمان والتقوى لا ما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان وأيضا فالصالحون سابقوهم لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام وان كانوا إنما خدموه لطاعته لله كما لو خدم الانس رجلا صالحا لطاعته لله ثم استخدمهم فيما لا يجوز فهذا بمنزلة من أنعم عليه بطاعته نعمة فصرفها الى معصية الله فهو آثم بذلك وكثير من هؤلاء يسلب تلك النعمة ثم قد يسلب الطاعة فيصير فاسقا ومنهم من يرتد عن دين الاسلام فطاعة الجن للانسان ليست أعظم من طاعة الانس بل الانس أجل وأعظم وأفضل وطاعتهم أنفع واذا كان المطاع من الانس قد يطاع في طاعة الله فيكون محمودا مثابا وقد يطاع في معصية الله فيكون مذموما آثما فكذلك المطاع من الجن الذي يطيعه الناس والمطاع من الانس قد يكون مطاعا لصلاحه ودينه وقد يكون مطاعا لملكه وقوته وقد يكون مطاعا لنفعه لمن يخدمه بالمعاوضة فكذلك المطاع من الجن قد يطاع لقول وملك محمود أو مذموم ثم الملك اذا سار بالعدل حمد وإن سار بالظلم فعاقبته مذمومة وقد يهلكه أعوانه فكذلك المطاع من لجن اذا ظلمهم أو ظلم الانس بهم أو بغيرهم كانت عاقبته مذمومة وقد تقتله الجن أو تسلط عليه من الانس من يقتله وكل هذا واقع نعرف من ذلك من الوقائع ما يطول وصفه كما نعرف من ذلك من وقائع الانس ما يطول وصفه وليس آيات الانبياء في شيء من هذا الجنس ونبينا ﷺ لما أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى إنما أسري به ليرى من آيات ربه الكبرى وهذا هو الذي كان من خصائصه أن مسراه كان هذا كما قال تعالى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وقال تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة اسري به فهذا الذي كان من خصائصه ومن أعلام نبوته وأما مجرد قطع تلك المسافة فهذا يكون لمن تحمله الجن وقد قال العفريت لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم مقامك وحمل العرش من القصر من اليمن الى الشام أبلغ من ذلك وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فهذا أبلغ من قطع المسافة التي بين المسجدين في ليلة ومحمد ﷺ أفضل من الذي عنده علم من الكتاب ومن سليمان فكأن الذي خصه الله به أفضل من ذلك وهو أنه أسري به في ليلة ليريه من آياته فالخاصة ان الإسراء كان ليريه من آياته الكبرى كما رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى فهذا ما حصل مثله لا لسليمان ولا لغيره والجن وان قدروا على حمل بعض الناس في الهواء فلا يقدرون على إصعاده الى السماء واراءته آيات ربه الكبرى فكان ما آتاه الله محمدا خارجا عن قدرة الجن والانس وانما كان الذي صحبه في معراجه جبريل الذي اصطفاه الله لرسالته والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكان المقصود من الإسراء أن يريه ما رآه من آياته الكبرى ثم يخبر به الناس فلما أخبر به كذب به من كذب من المشركين وصدق به الصديق وأمثاله من المؤمنين فكان ذلك ابتلاء ومحنة للناس كما قال وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس أي محنة وابتلاء للناس ليتميز المؤمن عن الكافر وكان فيما أخبرهم به أنه رأى الجنة والنار وهذا مما يخوفهم به قال تعالى ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا والرسول لما أخبرهم بما رآه كذبوه في الإسراء وأنكروا أن يكون أسري به الى المسجد الاقصى فلما سألوه عن صفته فوصفه لهم وقد علموا أنه لم يره قبل ذلك وصدقه من رآه منهم كان ذلك دليلا على صدقه في المسرى فلم يمكنهم مع ذلك تكذيبه فيما لم يروه وأخبر الله تعالى بالمسرى الى المسجد الاقصى لأنهم قد علموا صدقه في ذلك بما أخبرهم به من علاماته فلا يمكنهم تكذيبه في ذلك وذكر أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يعين ما رآه وهو جبريل الذي رآه في صورته التي خلق عليها مرتين لأن رؤية جبريل هي من تمام نبوته ومما يبين ان الذي أتاه بالقرآن ملك لا شيطان كما قال في سورة إذا الشمس كورت انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ثم قال وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين
فصل
ومما يبين ضعف طريقة هؤلاء أنهم قالوا المعجزات لا تدل بجنسها على النبوة بل يوجد مثل المعجز من كل وجه ولا يدل على النبوة كأشراط الساعة وكما يوجد للسحرة والكهان والصالحين من الخوارق التي تماثل آيات الانبياء فيما زعمه هؤلاء قالوا لكن الفرق أن هذا يدعي النبوة ويحتج بها ويتحداهم بالمثل فلا يقدر أحد على معارضته وأولئك لو ادعوا النبوة لمنعهم الله منها وان كانوا قبل ذلك غير ممنوعين منها أو لقيض لهم من يعارضهم ولو عارضوا بها نبيا لمنعهم الله إياها ليسلم دليل النبوة قالوا والمعجز انما يدل دلالة وضعية بالجعل والقصد كدلالة الألفاظ والعقد والخط والعلامات التي يجعلها الناس بينهم فيقال لهم هذه الأمور كلها انما تدل إذا تقدم علم المدلول بها أن الدال جعلها علامة كما يوكل الرجل وكيلا ويجعل بينه وبينه علامة إما وضع يده على ترقوته وإما وضع خنصره وإما وضع يده على رأسه فمن جاء بهذه العلامة علم أن موكله أرسله فأما إذا لم يتقدم ذلك لم تكن دلالة جعلية وضعية اصطلاحية وآيات الانبياء لما لم تتقدم قبلها من الرب مواضعة بينه وبين العباد قالوا هي تشبه ما إذا قال الرجل لموكله والرسول لمرسله انك أرسلتني الى هؤلاء القوم فان كنت أرسلتني فقم واقعد ليعلموا انك أرسلتني فاذا قام وقعد عقب طلب الرسول علم الحاضرون أنه قام وقعد ليعلمهم أنه رسوله وان كان بدون طلبه قد يقوم ويقعد لأمور أخرى فيقال لهم هنا لما علم الحاضرون انتفاء داع يدعوه إلا قصد التصديق علموا أنه قصد تصديقه ولهذا لو جوزوا قيامه لحاجة عرضت أو لحية أو عقرب وقعت في ثيابه أو لغير ذلك لم يجعلوا ذلك دليلا والسبر والتقسيم مما يعلم به الدليل وان لم يقصده الدليل حتى أن الرجل المشهور إذا خرج في غير وقت خروجه المعتاد فقد يعرف كثير من الناس لاي شيء خرج لعلمهم بانتفاء غيره وأن خروجه له مناسب وان لم يكن هنا أحد طلب الاستدلال فخروج الانسان عن عادته قد يكون لاسباب فاذا اقترن بسبب صالح وعلم انتفاء غيره علم أنه لذاك السبب وهذا إنما يكون ممن يفعل لداع يدعوه والرب تعالى عندهم لا يفعل لداع يدعوه فلزمهم إما إبطال أصلهم وإما إبطال هذه الدلالة وايضا فيقال لهم بل الدليل دل لجنسه وهو هذا الفعل الذي لم يفعل إلا لهذا الطلب ومتى وجد هذا كان جنسه دليلا وليست الدعوى جزءا من الدليل بل طلب الاعلام بهذا الفعل مع الفعل هو الدليل ولهذا لو قال فافعل ما يدل على صدقي وقام وقعد لم يدل على صدقه بخلاف ما إذا قال فقم واقعد ولو قال فأظهر ما يدل على صدقي فلا بد أن يظهر ما يدل جنسه أنه دليل كقول أو خط أو غير ذلك أو خلعة تختص بمثل ذلك ففرق بين أن يطلب فعلا معينا أو دليلا مطلقا وهو إذا طلب فعلا معينا كقيام أو وضع يد على الرأس أو صلاة ركعتين أو غير ذلك من الأفعال دل على صدقه وان كان ذلك معتادا له أن يفعله فليس من شرط دلالته أن يخرج عن عادته لكن شرط دلالته أن يعلم أنه فعله لأجل الاعلام بحيث لا يكون هناك سبب داع غير الأعلام وحينئذ فهو دال لجنسه وكذلك يقال الرب إذا خرق العادة لمدعي الرسالة عقب مطالبته بآية علم أن الله لم يخلق تلك الأدلة على صدقه فهذا يدل وهذا انما يتم مع كون الرب يفعل شيئا لأجل شيء آخر وحينئذ فقد يكون من شرط الدليل مطالبة الطالب بدليل لا أن نفس الدعوى هي جزء الدليل وفرق بين طلبه من الرب آية أو طلبهم منه آية وبين الدعوى فاظهار ما يظهره الرب عقب طلبهم أو طلبه قد يقال فيه أن الطلب جزء الدليل وأنه لو أظهره بدون الطلب لم يدل وأما نفس دعوى النبوة فليست جزءا وعلى هذا فاذا قدر أنه يفعل ذلك عند طلبه أو طلب غيره آية دل على صدقه لكن هذا يكون إذا علم أنه لم يفعله إلا لإعلام أولئك بصدقه وهذا لا يكون إلا بأن يتميز جنس ما دل به عن غيره ولا يجوز أن يدل مع وجود مثله من غير دلالة بل متى قدر وجود مثله من غير دلالة بطل كونه دليلا ولو كانت الدعوى جزءا من الدليل لكانت المعارضة لا تكون إلا مع دعوى النبوة فلو أتوا بمثل القرآن من غير دعوى النبوة لم يكونوا عارضوه وهذا خلاف ما في القرآن وخلاف ما أجمع المسلمون بل العقلاء والله أعلم وهم يسمون ما يكون بقصد الدال كالكلام دليلا وضعيا فالأقوال والأفعال التي يقصد بها الدلالة كالعقد وما يجعله الرجل علامة ونحو ذلك يسمونه دليلا وضعيا ويسمون ما يدل مطلقا دليلا عقليا والأجود أن يقال جميع الأدلة عقلية بمعنى أن العقل إذا تصورها علم أنها تدل فان الدليل هو ما يكون النظر الصحيح فيه مفضيا الى العلم بالمدلول عليه وإنما يكون النظر الصحيح لمن يعقل دلالة الدليل فمن لم يعقل كون الدليل مستلزما للمدلول لم يستدل به ومن عقل ذلك استدل به فهو يدل بصفة هو في نفسه عليها لا بصفة هي في المستدل لكن كونه عقليا يرجع إلى أن المستدل علمه بعقله وهذا صفة في المستدل لا فيه أو الأجود أن يقال الدليل قد يدل بمجرده وقد يدل بقصد الدال على دلالته فالاول لا يحتاج الى قصد الدلالة كما تقول النحاة أن الأصوات تدل بالطبع وتدل بالوضع فالذي يدل بالطبع كالنحنحة والسعال والبكاء ونحو ذلك من الاصوات وهذا ليس كلاما وحينئذ فما يدل بقصد الدال أحق بالدلالةودلالته أكمل ولهذا كانت دلالة الكلام على مقصود المتكلم وهي دلالة سمعية أكمل من جميع أنواع الأدلة على مراده وهو البيان الذي علمه الله الانسان وامتن بذلك على عباده فمنها ما يدل بمجرده ومنها ما يدل بقصد الدال فاذا انضم اليه ما يعرف أنه قصد الدلالة دل فالدليل هنا في الحقيقة قصد الدال للدلالة وهي دلالة لا تنتقض اذا لم يجوز عليه الكذب وإنما الذي دل به على قصده هو دل بجعله دليلا لم يدل بمجرده فهو دليل بالاختيار لا بمجرده فالاقوال والافعال التي يقصد بها الدلالة تدل باختيار الدال بها لا بمجردها ودلالتها تعلم بالعقل وقد تفتقر من العقل الى أكثر مما يفتقر اليه العقلي المجرد لانها تحتاج الى أن يعلم قصد الدال ولكن ما يحصل بها من الدلالة أوضح وأكثر كالكلام وعلى هذا فاذا أريد تقسيمها الى عقلي ووضعي أي الى عقلي مجرد والى وضعي يحتاج مع العقل الى قصد من الدال فهو تقسيم صحيح فدال يعلم بمجرد العقل وهذا لا يحتاج مع العقل إلى السمع أو غيره وحينئذ فاذا قيل في السمعيات انها ليست عقلية أي لا يكفي فيها مجرد العقل بل لا بد من انضمام السمع اليه وكذلك ذكر الرازي وغيره أن السمع المحض لا يدل لا بد من العقل وهذا صحيح فان العقل شرط في جميع العلوم التي تختص بالعقلاء والله أعلم ومما يلزم أولئك ان ما كان يظهر على يد النبي ﷺ في كل وقت من الاوقات ليس دليلا على نبوته لأنه لم يكن كلما ظهر شيء من ذلك احتج به وتحدى الناس بالاتيان بمثله بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصة ولا نقل التحدي عن غيره من الانبياء مثل موسى والمسيح وصالح ولكن السحرة لما عارضوا موسى أبطل معارضتهم وهذا الذي قالوه يوجب أن لا تكون كرامات الأولياء من جملة المعجزات وقد ذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الاولياء معجزات لنبيهم وهي من آيات نبوته وهذا هو الصواب كقصة أبي مسلم الخولاني وغيره مما جرى لهذه الامة من الآيات ومثل ما كان يظهر على أيدي الحواريين وعلى يد موسى وأتباعه لأنه جعل التحدي بالمثل جزءا من دليله وآيته فلا يكون دليلا حتى يتحداهم بالمثل بل قد علم أن نفس استدلال المستدل بالدليل يوجب اختصاصه بالمدلول عليه وكل من أتى بآية هي دليل وبرهان وحجة فقد علم أنه يقول انها مستلزمة للمدلول عليه لا يوجد مع عدمه فلا يمكن أحدا أن يعارضها فيأتي بمثلها مع عدم المدلول عليه وهؤلاء جعلوا من جملة الدليل دعوى النبوة والاحتجاج به والتحدي بالمثل ثلاثة أشياء وهذه الثلاثة هي أجزاء الدليل ودعوى النبوة هو الذي تقام عليه البينة والذي تقام عليه الحجة ليس هو جزءا من الحجة والدعوى تسمى مدلولا عليها ونفس المدعي يسمى مدلولا عليه وثبوت المدعي يسمى مدلولا عليه والعلم بثبوته يسمى مدلولا عليه فهنا دعوى النبوة وهنا النبوة المدعاة قبل أن يعلم ثبوتها وهنا ثبوتها في نفس الامر وهنا علم الناس بثبوتها وكذلك سائر الدعاوي فمن ادعى تحريم النبيذ المتنازع فيه فهنا دعواه التحريم ونفس التحريم هل هو ثابت أم منتف وثبوت التحريم في نفس الامر والعلم بالتحريم وكذلك من أدعى حقا عند الحاكم فهنا دعواه الحق وهنا نفس المدعي وهو استحقاقه ذلك الحق وهنا ثبوت هذا الاستحقاق في نفس الامر وهنا العلم باستحقاقه فالبينة والحجة يجب أن يقارن المدلول عليه الذي هو المدعي وثبوته في نفس الامر سواء ادعاه مدع أو لم يدعه وسواء علمه عالم أو لم يعلمه فان الدليل مستلزم لحرمة النبيد واستحقاق الحق وثبوت الحرمة في نفس الامر يستلزم للحرمة وأما مجرد الحرمة المتصورة فليست مستلزمة لوجودها في نفس الامر بل قد يتصور في الأذهان مالا يوجد في الاعيان والله أعلم
فصل
وقد ذكر القاضي أبو بكر ان من المثبتة المجيزين للكرامات من أجاب عن حجة النفاة بأن قال الأدلة على ضربين عقلية ووضعية فالعقلي يدل لنفسه وجنسه والوضعي يدل مع المواطأة ولا يدل مثله مع عدمها كعقد العشرة وضعف أبو بكر هذا بأن قال لهم أن يقولوا إذا كانت المعجزات تجري مجرى القول فحيث قصدت دلت وعنده أن الأمر ليس كذلك قلت بل هذا القائل أحسن لأنها تدل إذا قصدت بها الدلالة مثل قيام الأمر وقعوده إذا طلب ذلك منه ومثل العلامة التي تكون للشخص إذا جعلها علامة فحيث قصد الدلالة به دل لكن لازم هذا أن لا يكون إلا إذا طلب الاستدلال بها لانفس الدعوى ثم أنه ذكر أن الخارق للعادة لا بد أن يكون خارقا لعادة جميع المرسل اليهم ثم جوز أن يكون مما اعتاده كثير منهم بشرط أن يمنعهم عن المعارضة فيكون ذلك خرق عادة ثم قال في الكرامات لا يجوز أن تكثر حتى تصير عادة لان من حق المعجز على قولنا وقولهم ان يكون خارقا للعادة فلا تجوز إدامة ظهوره فيصير عادة بل يقع نادرا وقد جوزوا في السحر والكهانة أن يكون عادة لكن عند دعوى النبوة يمنعهم من المعارضة فكانت الكرامات أولى بذلك هي عادة للصالحين وإذا ادعى النبوة صادق منع من المعارضة فهذا اضطراب آخر وادعى اجماع الأمة على أنها لا تظهر على فاسق ولولا الإجماع لجوز ذلك لانه لا ينقض دليل النبوة فصارت تدل على الولاية بالإجماع على أنها لا تظهر الا على يد نبي أو ولي فبهذا الإجماع يعلم أن من ظهرت على يده هو ولي لله إذا لم يدع النبوة وهذا تناقض من وجهين أحدهما أنهم قد قالوا إنها لا تدل على الولاية لان الولي من مات على الايمان وهذا غير معلوم الثاني أنه يقال اذا جوزت أن يظهر على يد الساحر والكاهن ونحوهما من الكفار ما هو من جنس المعجزات والكرامات وقلت يجب أن لا يستثنى من السحر شيء لا يفعل عنده إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر ولا يفعل عنده كفلق البحر ونحوه فيكون الفرق بين السحر وغيره إنما يعلم بهذا الإجماع ان ثبت والا فعندك يجوز أن يظهر على يد الساحر كل ما يظهر على يد النبي إذا لم يدع النبوة ولا يحتج بذلك إذا ادعى النبوة وعارضه معارض بالمثل فكيف تقول مع هذا إن الخوارق تدل على الولاية بالإجماع وانت تجوز ظهورها على أيدي الكفار من السحرة والكهان فان قال السحر والكهانة كانا قبل الرسول فلما جاء بطلا قيل أنت قد أثبت أن نفسه سحر بعد النبوة وان السحر كان على عهد الصحابة وقتلوا الساحر وذكرت اجماع الفقهاء على أن السحر يكون من المسلمين وأهل الكتاب والساحر ليس بولي لله والسحر عندك هو من جنس الكرامات الجميع خارق للعادة لم يستدل به على النبوة فكيف تقول مع هذا إن الخوارق لا تكون إلا لنبي أو ولي وأنت أثبتها للكفار وهذا كله من جهة أنه أخذ جنس الخوارق مشتركا فجوز أن يكون للنبي وغير النبي مع قوله ان الخارق لا بد أن يكون خارقا لعادة جميع المرسل اليهم
ولكن عنده هذا يحصل بعدم المعارضة وحينئذ فاشتراط كونه خارقا ومختصا بمقدور الرب باطل وهو قد حكى ان الإجماع على أن المعجز لا بد أن يكون خارقا للعادة فقال اعلموا رحمكم الله أن الكل من سائر الأمم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقا للعادة ثم قال في فصول الكرامات
فصل
ويقال لهم ان من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقا للعادة وهذا كما ذكر إجماع الناس على أنه لا يدل على صدق النبي الا المعجزات فقال في الاستدلال على انها لو لم تدل لزم عجز القديم إذ لا دليل بقول كل احد أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم الا ظهور المعجزة فهذا إجماع لا خلاف فيه فلو ظهرت على يد المتنبي لبطلت دلالة النبوة ولوجب عجز القديم عن دليل يدل على نبوتهم وهو نفسه قد ذكر في ذلك عدة أقوال في غير هذا الكتاب وأيضا فالاستدلال بالإجماع إنما يكون بعد ثبوت النبوة فلا يحتج على مقدمات دليل النبوة بمجرد الإجماع وهؤلاء إنما أوقعهم في هذه المناقضات أن القدرية يجعلون لربهم شريعة بالقياس على خلقه ويقولون لا يجوز أن يفعل كذا ولا أن يفعل كذا كقولهم لا يجوز أن يضل هذا فإنا لو جوزنا عليه الاضلال لجاز أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين فان غاية ذلك أنه اضلال واذا جاز ذلك لم يبق دليل على صدق الانبياء ولم يفرق بين الصادق والكاذب فعارضهم هؤلاء بأن قالوا يجوز أن يفعل كل ممكن مقدور ليس يجب أن ينزه عن فعل من الأفعال وليس في الممكنات ما هو قبيح أو ظلم أو شيء بل كل ذلك حسن وعدل فله أن يفعله فقيل لهم فجوزوا اظهار المعجزات على أيدي الكذابين ففتقوا لهم فتقا فقالوا هذا يلزم منه عجز الرب عن أن ينصب دليلا يدل على صدق النبي وان كان يمكنه أن يعرف صدقهم بالضرورة فذاك يوجب أن يعرفوا نفسه بالضرورة وهو يرفع التكليف والتحقيق ان اظهار المعجزات الدالة على صدق الانبياء على يد الكاذب لا يجوز لكن قيل لامتناع ذلك في نفسه كما قاله الأشعري وقيل لأن ذلك يمتنع في حكمة الرب وعدله وهذا أصح فانه قادر على ذلك لكن لو فعله بطلت دلالة المعجز على الصدق وهذا كما أنه قادر على سلب العقول ولو فعل ذلك لبطلت العلوم وهو سبحانه لو فعل ذلك قادر على تعريف الصدق بالضرورة وقادر على أن لا يعرف بذلك ولا يميز للناس بين الصادق والكاذب لكنه لا يفعل هذا المقدور ونحن نعلم بالاضطرار أنه لا يفعل ذلك وأنه لا يبعث أنبياء صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتباعهم ويتوعد من كذبهم فيقوم آخرون كذابون يدعون مثل ذلك وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرق به بين الصادق والكاذب بل قد علمنا من سنته أنه لا يسوي في دلائل الصدق والكذب بين المحدث الصادق والكاذب والشاهد الصادق والكاذب وبين الذي يعامل الناس بالصدق والكذب وبين الذي يظهر الاسلام صادقا والذي يظهره نفاقا وكذبا بل يميز هذا من هذا بالدلائل الكثيرة كما يميز بين العادل وبين الظالم وبين الأمين وبين الخائن فان هذا مقتضى سنته التي لا تتبدل وحكمته التي هو منزه عن نقيضها وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات وتفريقه بين المختلفات فكيف يسوي بين أفضل الناس وأكملهم صدقا وبين أكذب الناس وشرهم كذبا فيما يعود الى فساد العالم في العقول والأديان والأبضاع والأموال والدنيا والآخرة وقول القدري اذا جاز عليه اضلال من أضله جاز عليه اضلال بعض الناس يقال له أولا ليس اظهار المعجزة على أيدي الكذابين من باب الاضلال بل لو ظهرت على يده لكانت لا تدل على الصدق فلم يكن دليلا يفرق بين الصدق والكذب وعدم الدليل يوجب عدم العلم بذلك الدليل لا يوجب اعتقاد نقيضه ولو كان لا يظهرها الا على يد كاذب لكانت إنما تدل على الكذب فالاشتراك بين الصنفين يرفع دلالتها واختصاص أحدهما بها يوجب دلالتها على المختص ويقال ثانيا تجويز اضلال طائفة معينة بمعنى أنه حصل لهم الضلال لعدم نظرهم واستدلالهم وقصدهم الحق وجعل قلوبهم معرضة عن طلب الحق وقصده وأنها تكذب الصادق ليس هو مثل اضلال العالم كله ورفع ما يعرف به الحق من الباطل بل مثل هذا مثل من قال اذا جاز ان يعمي طائفة من الناس جاز أن يعمي جميع الناس فلا يرى أحد شيئا واذا جاز أن يصم بعض الناس جاز أن يصم جميعهم فلا يسمع أحد شيئا وإذا جاز أن يزمن بعض الناس أو يشل يديه جاز إزمان جميع الناس وإشلال أيديهم حتى لا يقدر أحد في العالم على شيء ولا بطش بيده واذا جاز أن يجنن بعض الناس جاز أن يجنن جميعهم حتى لا يبقى في الأرض الا مجنون لا عاقل واذا جاز أن يميت بعض الناس جاز أن يميتهم كلهم في ساعة واحدة مع بقاء العالم على ما هو عليه وأن يقال اذا جاز أن يضل بعض الناس عن قبول بعض الحق جاز أن يضله عن قبول لكل حق حتى لا يصدق أحدا في شيء ولا يقبل شيئا لما يقال له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا ينام وان كل من أضل جاز أن يفعل به هذا كله وهذا كله مما يعرف بضرورة العقل الفرق بينهما ومن سوى بين هذا وهذا كان مصابا في عقله وآيات الانبياء هي من هذا الباب فلو لم يميز بين الصادق والكاذب لكان قد بعث أنبياء يبلغون رسالته ويأمرون بما أمر به من أطاعهم سعد في الدنيا والآخرة ومن كذبهم شقي في الدنيا والآخرة وآخرين كذابين يبلغون عنه مالم يقله ويأمرون بما نهى عنه وينهون عما أمر به ومن اتبعهم شقي في الدنيا والآخرة ولم يجعل لأحد سبيلا الى التمييز بين هؤلاء وهؤلاء وهذا أعظم من أن يقال انه خلق أطعمة نافعة وسموما قاتلة ولم يميز بينهما بل كل ما أكله الناس جاز أن يكون من هذا وهذا ومعلوم أن من جوز مثل هذا على الله فهو مصاب في عقله ثم ان الله جعل الاشياء متلازمة وكل ملزوم هو دليل على لازمه فالصدق له لوازم كثيرة فان من كان يصدق ويتحرى الصدق كان من لوازمه أنه لا يتعمد الكذب ولا يخبر بخبرين متناقضين عمدا ولا يبطن خلاف ما يظهر ولا يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ولا يخون أمانته ولا يجحد حقا هو عليه الى أمثال هذه الأمور التي يمتنع أن تكون لازمة الا لصادق فاذا انتفت انتفى الصدق وإذا وجدت كانت مستلزمة لصدقه والكاذب بالعكس لوازمه بخلاف ذلك وهذا لان الإنسان حي ناطق والنطق من لوازمه الظاهرة لبني جنسه ومن لوازم النطق الخبر فانه ألزم له من الامر والطلب حتى قد قيل ان جميع أنواع الكلام يعود الى الخبر فلزم أن يكون من لوازم الانسان أخباره وظهور أخباره وكثرته وان هذا لا بد من وجوده حيث كان وحينئذ فاذا كان كذابا عرف الناس كذبه لكثرة ما يظهر منه من الخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من أحوال نفسه وغيره ومما رآه وسمعه وقيل له في الشهادة والغيب ولهذا كل من كان كاذبا ظهر عليه كذبه بعد مدة سواء كان مدعيا للنبوة أو كان كاذبا في العلم ونقله أو في الشهادة أو في غير ذلك وان كان مطاعا كان ظهور كذبه أكثر لما فيه من الفساد وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ملك كذاب وشيخ زان وعائل مستكبر ويروى وفقير مختال ولهذا كثير من أهل الدول كانوا يتواصون بالكذب وكتمان أمورهم ثم يظهر كالقرامطة ولهذا امتنع اتفاق الناس على الكذاب والكتمان من غير تواطؤ لما جعل الله في النفوس من الداعي الى الصدق والبيان وجعل الله في القلوب هداية ومعرفة بين هذا وهذا ولم يعرف قط في بني آدم أنه اشتبه صادق بكاذب الا مدة قليلة ثم يظهر الامر وليس هذا كالضلال في أمور خفية ومشتبهة على أكثر الناس فان التمييز بين الصادق والكاذب يظهر لجمهور الناس وعامتهم بعد مدة ولا يطول اشتباه ذلك عليهم وإنما يشتبه الامر عليهم فيما لم يتعمد فيه الكذب بل أخطأ أصحابه فأخذ عنهم تقليدا لهم وأما مع كون أصحابه يتعمدون الكذب فهذا لا يخفى على عامة الناس
فصل
وقد تقدم ذكر بعض الفروق بين آيات الانبياء وغيرهم وبينها وبين غيرها من الفروق مالا يكان يحصى الاول أن النبي صادق فيما يخبر به عن الكتب لا يكذب قط ومن خالفهم من السحرة والكهان لا بد أن يكذب كما قال هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم الثاني من جهة ما يأمر به هذا ويفعله ومن جهة ما يأمر به هذا ويفعله فان الانبياء لا يأمرون الا بالعدل وطلب الآخرة وعبادة الله وحده وأعمالهم البر والتقوى ومخالفوهم يأمرون بالشرك والظلم ويعظمون الدنيا وفي أعمالهم الاثم والعدوان الثالث أن السحر والكهانة ونحوهما أمور معتادة معروفة لأصحابها ليست خارقة لعادتهم وآيات الانبياء لا تكون الا لهم ولمن اتبعهم الرابع أن الكهانة والسحر يناله الانسان بتعلمه وسعيه واكتسابه وهذا مجرب عند الناس بخلاف النبوة فانه لا ينالها أحد باكتسابه الخامس أن النبوة لو قدر أنها تنال بالكسب فانما تنال بالاعمال الصالحة والصدق والعدل والتوحيد لا تحصل مع الكذب على من دون الله فضلا عن أن تحصل مع الكذب على الله فالطريق الذي تحصل به لو حصلت بالكسب مستلزم للصدق على الله فيما يخبر به السادس أن ما يأتي به الكهان والسحرة لا يخرج عن كونه مقدور للجن والانس وهم مأمورون بطاعة الرسل وآيات الرسل لا يقدر عليها لا جن ولا إنس بل هي خارقة لعادة كل من أرسل النبي اليه قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا السابع أن هذه يمكن أن تعارض بمثلها وآيات الانبياء لا يمكن أحدا أن يعارضها بمثلها الثامن أن تلك ليست خارقة لعادات بني آدم بل كل ضرب منها معتاد لطائفة غير الانبياء فليست معتادة لغير الصادقين على الله ولمن صدقهم التاسع أن هذه لا يقدر عليها مخلوق لا الملائكة ولا غيرهم كانزال القرآن وتكليم موسى وتلك تقدر عليها الجن والشياطين العاشر أنه إذا كان من الآيات ما يقدر عليه الملائكة فان الملائكة لا تكذب على الله ولا تقول لبشر ان الله أرسلك ولم يرسله وانما يفعل ذلك الشياطين والكرامات معتادة في الصالحين منا ومن قبلنا ليست خارقة لعادة الصالحين وهذه تنال بالصلاح بدعائهم وعبادتهم ومعجزات الانبياء لا تنال بذلك ولو طلبها الناس حتى يأذن الله فيها قل إنما الآيات عند الله قل ان الله قادر على أن ينزل آية الحادي عشر أن النبي قد تقدمه أنبياء فهو لا يأمر الا بجنس ما أمرت به الرسل قبله فله نظراء يعتبر بهم وكذلك الساحر والكاهن له نظراء يعتبر بهم والثاني عشر أن النبي لا يأمر الا بمصالح العباد في المعاش والمعاد فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيأمر بالتوحيد والاخلاص والصدق وينهى عن الشرك والكذب والظلم فالعقول والفطر توافقه كما توافقه الانبياء قبله فيصدقه صريح المعقول وصحيح المنقول الخارج عما جاء به والله أعلم
فصل
ومن تدبر هذا وغيره تبين له أن جميع ما ابتدعه المتكلمون وغيرهم مما يخالف الكتاب والسنة فانه باطل ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة ان ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل لكن كثير من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصلة لا يعرف ما الذي يوافق الكتاب والسنة وما الذي يخالفه كما قد أصاب كثير من الناس في الكتب المصنفة في الكلام في أصول الدين وفي الرأي والتصوف وغير ذلك فكثير منهم قد اتبع طائفة يظن أن ما يقولونه هو الحق وكلهم على خطأ وضلال ولقد أحسن الامام أحمد في قوله في خطبته وان كانت مأثورة عمن تقدم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل الى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لابليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن اثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب محالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
فهؤلاء أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم كما قال مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب وتصديق ما ذكره أنك لا تجد طائفة منهم توافق الكتاب والسنة فيما جعلوه أصول دينهم بل لكل طائفة أصول دين لهم فهي أصول دينهم الذي هم عليه ليس هي أصول الدين الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وما هم عليه من الدين ليس كله موافقا للرسول ولا كله مخالفا له بل بعضه موافق وبعضه مخالف بمنزلة أهل الكتاب الذين لبسوا الحق بالباطل كما قال تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون لكن بعض الطوائف أكثر مخالفة للرسول من بعض وبعضها أظهر مخالفة ولكن الظهور أمر نسبي فمن عرف السنة ظهرت له مخالفة من خالفها فقد تظهر مخالفة بعضهم للسنة لبعض الناس لعلمه بالسنة دون من لا يعلم منها ما يعلمه هو وقد تكون السنة في ذلك معلومة عند جمهور الامة فتظهر مخالفة من خالفها كما تظهر للجمهور مخالفة الرافضة للسنة وعند الجمهور هم المخالفون للسنة فيقولون أنت سنى أو رافضي وكذلك الخوارج لما كانوا أهل سيف وقتال ظهرت مخالفتهم للجماعة حين كانوا يقاتلون الناس وأما اليوم فلا يعرفهم أكثر الناس وبدع القدرية والمرجئة ونحوهم لا تظهر مخالفتها بظهور هذين وهاتان البدعتان ظهرتا لما قتل عثمان في الفتنة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وظهرت الخوارق بمفارقة أهل الجماعة واستحلال دمائهم وأموالهم حتى قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب متبعا في ذلك لأمر النبي ﷺ قال الامام أحمد بن حنبل صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وهذه قد رواها صاحبه مسلم بن الحجاج في صحيحه وروى البخاري قطعة منها واتفقت الصحابة على قتال الخوارج حتى ان ابن عمر مع امتناعه عن الدخول في فرقة كسعد وغيره من السابقين ولهذا لم يبايعوا لأحد الا في الجماعة قال عند الموت ما آسى على شيء إلا على أني لم أقاتل الطائفة الباغية مع علي يريد بذلك قتال الخوارج والا فهو لم يبايع لا لعلي ولا غيره ولم يبايع معاوية الا بعد ان اجتمع الناس عليه فكيف يقاتل احدى الطائفتين وانما أراد المارقة التي قال فيها النبي ﷺ تمرق مارقة على حين فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين الى الحق وهذا حدث به أبو سعيد فلما بلغ ابن عمر قول النبي ﷺ في الخوارج وأمره بقتالهم تحسر على ترك قتالهم فكان قتالهم ثابتا بالسنة الصحيحة الصريحة وباتفاق الصحابة بخلاف فتنة الجمل وصفين فان أكثر السابقين الاولين كرهوا القتال في هذا وهذا وكثير من الصحابة قاتلوا إما من هذا الجانب وإما من هذا الجانب فكانت الصحابة في ذلك على ثلاثة اقوال لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أن علي بن أبي طالب كان أولى بالحق وأن ترك القتال بالكلية كان خيرا وأولى ففي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال تمرق مارقة على حين فرقة من الاسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق وقد ثبت عنه أنه جعل القاعد فيها خيرا من القائم والقائم خيرا من الماشي والماشي خيرا من الساعي وانه أثنى على من صالح ولم يثن على من قاتل ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة ان النبي ﷺ قال عن الحسن ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين فاثنى على الحسن في اصلاح الله به بين الفئتين وفي صحيح مسلم وبعض نسخ البخاري أن النبي ﷺ قال لعمار تقتلك الفئة الباغية وفي الصحيحين أيضا أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة قال معاذ وهم بالشام وفي صحيح مسلم عنه أنه قال لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم قال أحمد بن حنبل وغيره أهل المغرب أهل الشام أي أنها أول المغرب فان التغريب والتشريق أمر نسبي فلكل بلد غرب وشرق وهو ﷺ تكلم بمدينته فما تغرب عنها فهو غرب وما تشرق عنها فهو شرق وهي مسامته أول الشام من ناحية الفرات كما أن مكة مسامته لحران وسميساط ونحوهما وتصويب قتالهم ان كان بعد الاصلاح فلم يقع الاصلاح وإن كان عند بغيهم في الاقتتال وان لم يكن اصلاح فهؤلاء البغاة لم يكن في اصحاب علي من يقاتلهم بل تركوا قتالهم إما عجزا وإما تفريطا فترك الاصلاح المأمور به وعلى هذا قوتلوا ابتداء قتالا غير مأمور به ولما صار قتالهم مأمورا به لم يقاتلوا القتال المأمور به بل نكل أصحاب علي عن القتال إما عجزا وإما تفريطا والبغاة المأمور بقتالهم هم الذين بغوا بعد الاقتتال وامتنعوا من الاصلاح المأمور به فصاروا بغاة مقاتلين والبغاة اذا ابتدأوا بالقتال جاز قتالهم بالاتفاق كما يجوز قتال الغواة قطاع الطريق اذا قاتلوا باتفاق الناس فأما الباغي من غير قتال فليس في النص أن الله أمر بقتاله بل الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب كما ذهب اليه جمهور العلماء وكما دل عليه الكتاب والسنة كما هو مبسوط في موضعه والصديق قاتل المرتدين الذين ارتدوا عما كانوا فيه على عهد الرسول من دينه وهم أنواع منهم من آمن بمتنبئ كذاب ومنهم من لم يقر ببعض فرائض الاسلام التي أقر بها مع الرسول ومنهم من ترك الاسلام بالكلية ولهذا تسمى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتنا كما سماها النبي ﷺ والملاحم ما كان بين المسلمين والكفار وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الخوارج ظهروا في الفتنة وكفروا عثمان وعليا ومن والاهما وباينوا المسلمين في الدار وسموا دارهم دار الهجرة وكانوا كما وصفهم النبي ﷺ يقتلون أهل الاسلام ويدعون أهل الاوثان وكانوا أعظم الناس صلاة وصياما وقراءة كما قال النبي ﷺ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ومروقهم منه خروجهم باستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم فانه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وهم بسطوا في المسلمين أيديهم وألسنتهم فخرجوا منه ولم يحكم علي وأئمة الصحابة فيهم بحكمهم في المرتدين بل جعلوهم مسلمين وسعد بن أبي وقاص وهو أفضل من كان قد بقي بعد علي وهو من أهل الشورى واعتزل في الفتنة فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ولكنه ممن تكلم في الخوارج وتأول فيهم قوله وما يضل به الا الفاسفين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون وحدث أيضا طوائف الشيعة الالهية الغلاة فرفع الى علي منهم طائفة ادعوا فيه الالهية فأمرهم بالرجوع فأصروا فأمهلهم ثلاثا ثم أمر بأخاديد من نار فخدت وألقاهم فيها فرأى قتلهم بالنار وأما ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهي رسول الله ﷺ أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقوله ﷺ من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري وأكثر الفقهاء على قول ابن عباس وروي أنه بلغه أن ابن السوداء يسب أبا بكر وعمر فطلب قتله فهرب منه فاما قتله على السب أو لأنه كان متهما بالزندقة وقيل إنه هو الذي ابتدع بدعة الرافضة وأنه كان قصده افساد دين الاسلام وهذا يستحق القتل باتفاق المسلمين والذين يسبون أبا بكر وعمر فيهم تزندق كالاسماعيلية والنصيرية فهؤلاء يستحقون القتل بالاتفاق وفيهم من يعتقد بنبوة النبي ﷺ كالامامية فهؤلاء في قتلهم نزاع وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع وتواتر عن علي بن أبي طالب أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وهذا متفق عليه بين قدماء الشيعة وكلهم كانوا يفضلوا أبا بكر وعمر وانما كان النزاع في علي وعثمان حين صار لهذا شيعة ولهذا شيعة وأما أبو بكر وعمر فلم يكن أحد يتشيع لهما بل جميع الامة كانت متفقة عليهما حتى الخوارج فانهم يتولونهما وانما يتبرءون من علي وعثمان وروي أن معاوية قال لابن عباس أنت على ملة علي أم عثمان قال لا على ملة علي ولا عثمان أنا على ملة رسول الله ﷺ وكان كل من الشيعتين يذم الآخر بما برأه الله منه فكان بعض شيعة عثمان يتكلمون في علي بالباطل وبعض شيعة علي يتكلمون في عثمان بالباطل والشيعتان مع سائر الامة متفقة على تقديم أبي بكر وعمر قيل لشريك بن عبد الله القاضي أنت من شيعة علي وأنت تفضل أبا بكر وعمر فقال كل شيعة علي على هذا هو يقول على أعواد هذا المنبر خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر أفكنا نكذبه والله ما كان كذابا وقد روى البخاري في صحيحه من حديث محمد بن الحنفية أنه قال له يا ابت من خير الناس بعد رسول الله فقال يا بني أو ما تعرف قال لا قال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر وهو مروي من حديث الهمدانيين شيعة علي عن أبيه وروي عن علي أنه قال
ولو كنت بوابا على باب الجنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام