حذف 12. صفحة من مدونتي

12. صفحة تحذفهم با مفتري حسبي الله ونعم الوكيل

Translate

الخميس، 22 أغسطس 2024

ج9.النبوات لابن تيمية

 

ج9   فصل1.

ج9   فصل

فالذين سموا هذه الآيات خوارق العادات وعجائب ومعجزات اذا جعلوا ذلك شرطا فيها وصفة لازمة لها بحيث لا تكون الآيات الا كذلك فهذا صحيح وإن كانت هذه الامور قد تجعل أمرا عاما فتكون متناولة لآيات الانبياء وغيرها كالحيوان الذي ينقسم الى انسان وغير انسان وأما اذا جعلوا ذلك حدا لها وضابطا فلا بد أن يقيدوا كلامهم مثل أن يقولوا خوارق للعادات التي تختص الانبياء أو يقولوا خوارق عادات الناس كلهم غير الانبياء فإن آياتهم لا بد أن تخرق عادة كل أمة من الأمم وكل طائفة من الطوائف لا تختص آياتهم بخرق عادة بلد معين ولا من أرسلوا اليه بل تخرق عادة جميع الخلق إلا الانبياء فإنها اذا كانت معتادة للأنبياء مثل الخبر الصادق بغيب الله تعالى الذي لا يعرف إلا من جهتهم فما كان معتادا للانبياء دون غيرهم فهو من أعظم آياتهم وبراهينهم وإن كان معتادا لهم فإن الدليل هو ما يستلزم المدلول عليه فإذا لم يكن ذلك معتادا الا لنبي كان مستلزما للنبوة وكان من أتى به لا يكون إلا نبيا وهو المطلوب بل لو كان مستلزما للصدق ولا يأتي به الا صادق لكان المخبر عن نبوة نبي إما نبوة نفسه أو نبوة غيرها إذا كان كاذبا لم يحصل له مثل ذلك الدليل الذي هو مستلزم للصدق ولا يحصل أيضا لمن كذب بنبوة نبي صادق اذ هو أيضا كاذب وانما يحصل لمن أخبر بنبوة نبي صادق وحينئذ فيكون ذلك الدليل مستلزما للخبر الصادق بنبوة النبي وهذا هو المطلوب

فإن مدلول الآيات سواء سميت معجزات أو غيرها هو الخبر الصادق بنبوة النبي ومدلولها إخبار الله وشهادته بأنه نبي وأن الله أرسله فقول الله محمد رسول الله وقوله إني رسول الله إليكم وقول كل مؤمن انه رسول الله كل ذلك خبر عن رسالته وهذا هو مدلول الآيات وقد يكون مدلول الآيات نفس النبوة التي هي مخبر هذا الخبر ويكون الدليل مثل خبر من الأخبار وهذا من جنس الاول فما دل على نفس النبوة دل على صدق المخبر بها وما دل على صدق المخبر بها دل عليها وأما نفس إخبار الرب بالنبوة وإعلامه بها وشهادته بها قولا وعملا فهو إخبار منه بها وهو الصادق في خبره فإخباره هو دليل عليها فإنه لا يقول الا الحق ولا يخبر الا بالصدق وايضا فهو الذي أنشأ الرسالة وإرساله بكلامه قد يكون إنشاء للرسالة وقد يكون إخبارا عن إرساله كالذي يرسل رسولا من البشر قد يرسله والناس يسمعون فيقول له اذهب الى فلان فقل له كذا وكذا وقد يرسله بينه وبينه ثم يقول للناس إني قد أرسلته ويرسله بعلامات وآيات يعرف بها المرسل اليه صدقه وكذلك اذا وصفت بأنها معجزات فلا بد أن يعجز كل من ليس بنبي ولم يشهد للنبي بالنبوة فتعجز جميع المكذبين للرسول والشاكين في نبوته من الجن والانس وكذلك إذا قيل هي عجائب والعجب ما خرج عن نظيره فلم يكن له نظير فلا بد أن يكون من العجائب التي لا نظير لها أصلا عند غير الانبياء لا من الجن ولا من الانس فإذا كان ليس لها نظير في شيء آخر فهذا يؤيد أنها من خصائص الانبياء ومن آياتهم فهذا الموضع من فهمه فهما جيدا تبين له الفرقان في هذا النوع فإن كثيرا من الناس يصفها بأنها خوارق ومعجزات وعجائب ونحو ذلك ولا يحقق الفرق بين من يجب أن يخرق عادته ومعجزه ومن لا يجب أن يكون في حقه كذلك فالواجب أن يخرق عادة كل من لم يقر بنبوة الانبياء فلا يكون لمكذب بنبوتهم ولا لشاك وقولنا يخرق عادتهم هو من باب العادة التي تثبت بمرة ليس من شرط فسادها أن تقع غير مرة مع انتفاء الشهادة بالنبوة بل متى وقعت مرة واحدة مع انتفاء الشهادة بالنبوة لم تكن مختصة بشهادة النبوة ولا بالنبوة فلا يجب أن تكون آية وقولنا ولا يجب أن تخرق عادات الأنبياء ولم نقل ولا يجوز أن تخرق عادات الانبياء بل قد تكون خارقة أيضا لعادات الانبياء وقد خص بها نبي واحد مثل أكثر آيات الانبياء فإن كل نبي خص بآيات لكن لا يجب في آيات الانبياء ان تكون مختصة بنبي بل ولا يجب أن يختص ظهورها على يد النبي بل متى اختصت به وهي من خصائصه كانت آيه له سواء وجدت قبل ولادته أو بعد موته أو على يد أحد من الشاهدين له بالنبوة فكل هذه من آيات الانبياء والذين قالوا من شرط الآيات أن تقارن دعوى النبوة غلطوا غلطا عظيما وسبب غلطهم أنهم لم يعرفوا ما يخص بالآيات ولم يضبطوا خارق العادة بضابط يميز بينها وبين غيرها بل جعلوا ما للسحرة والكهان هو أيضا من آيات الانبياء إذا اقترن بدعوى النبوة ولم يعارضه معارض وجعلوا عدم المعارض هو الفارق بين النبي وغيره وجعلوا دعواه النبوة جزءا من الآية فقالوا هذا الخارق إن وجد مع دعوى النبوة كان معجزة وإن وجد بدون دعوى النبوة لم يكن معجزة فاحتاجوا لذلك أن يجعلوه مقارنا للدعوى قالوا والدليل على ذلك أن مثل آيات الانبياء يأتي في آخر الزمان إذا جاءت أشراط الساعة ومع ذلك ليس هو من آياتهم وكذلك قالوا في كرامات الأولياء وليس الامر كذلك بل أشراط الساعة هي من آيات الانبياء من وجوه منها أنهم أخبروا بها قبل وقوعها فإذا جاءت كما أخبروا كان ذلك من آياتهم ومنها أنهم أخبروا بالساعة فهذه الاشراط مصدقة لخبرهم بالساعة وكل من آمن بالساعة آمن بالانبياء وكل من كذب الانبياء كذب الساعة قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغي اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون وقال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به فكل من آمن بالآخرة فقد آمن بالقرآن فاذا جاءت أشراط الساعة كانت دليلا على صدق خبرهم أن الساعة حق وأن القرآن حق وكان هذا من الآيات الدالة على صدق ما جاء به الرسول من القرآن وهو المطلوب فلا يوجد خرق عادة لجميع الناس إلا وهو من آيات الانبياء وكذلك الذي يقتله الدجال ثم يحييه فيقوم فيقول أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا به رسول الله ﷺ والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فيريد الدجال أن يقتله فلا يقدر على ذلك فهذا الرجل بعد أن قتل وقام يقول للدجال أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا به رسول الله ﷺ والله ما ازددت فيك بهذا القتل إلا بصيرة ثم يريد الدجال أن يقتله فلا يقدر عليه فعجزه عن قتله ثانيا مع تكذيب الرجل له بعد أن قتله وشهادته للرسول محمد ﷺ بالرسالة هو من خوارق العادات التي لا توجد إلا لمن شهد للأنبياء بالرسالة وهذا الرجل هو من خيار أهل الأرض المسلمين فهذا الخارق الذي جرى فيه هو من خصائص من شهد لمحمد بالنبوة فهو من أعلام النبوة ودلائلها وكونه قتل أولا أبلغ في الدلالة فإن ذلك لم يزغه ولم يؤثر فيه وعلم أنه لا يسلط عليه مرة ثانية فكان هذا اليقين والإيمان مع عجزه عنه هو من خوارق الآيات ومعلوم أن قتله ممكن في العادة فعجزه عن قتله ثانيا هو الخارق للعادة ودل ذلك على أن إحياء الله له لم يكن معجزة للدجال ولا ليبين بها صدقه لكن أحياه ليكذب الدجال وليبين أن محمدا رسول الله وأن الدجال كذاب وأنه هو الأعور الكذاب الذي أنذر به النبي ﷺ حيث قال ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الدجال وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته إنه أعور وإن الله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن قارئ وغير قارئ وفي بعض الأحاديث الصحيحة واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فذكر لهم آيات ظاهرة يشترك فيها الناس تبين لهم كذبه فيما يدعيه من الربوبية اذ كان كثير من الناس يجوزون ظهور الإله في البشر النصارى وغير النصارى وما يأتي به الدجال إنما يحار فيه ويراه معارضا لآيات الانبياء من لم يحكم الفرقان فقوم يكذبون أن يأتي بعجيب ويقولون ما معه الا التمويه كما قالوا في السحر والكهانة مثل كثير من المعتزلة والظاهرية كابن حزم وقوم يقولون لما ادعى الإلهية كانت الدعوى معلومة البطلان فلم يظهر الخارق كما يقول ذلك القاضي أبو بكر وطائفة ويدعون أن النصارى اعتقدت في المسيح الإلهية لكونه أتى بالخوارق مع إقراره بالعبودية فكيف بمن يدعي الالهية ولكن هذا الخارق الذي يظهره الله في هذا الرجل الصالح الذي طلب منه الدجال أن يؤمن به فلم يفعل بل كذبه وقال أنت الأعور الدجال الذي أخبرنا به النبي ﷺ فقتله ثم أحياه الله فقال له أنت الأعورالدجال فكذبه قبل أن قتل وبعد ما أحياه الله وأراد الدجال قتله ثانية فلم يمكن فعجزه عن قتله ثانيا من أعظم الخوارق مع تكذيبه وأما إحياؤه مع تكذيبه له أولا وعجزه ثانيا عن قتله فليس بخارق فهذا إحياء معين معه دلائل معدودة تبين أنه من الآيات الدالة على صدق الرسول لا على صدق الدجال وتبين بذلك أن الآيات جميعها تدل على صدق الأنبياء فان آيات الله مرة أو مرتين أو ثلاثا لا يشترط في ذلك تكرار بل شرطها ان لا يكون لها نظير في العالم لغير الانبياء ومن يشهد بالنبوة ولم يوجد لغيرهم كان هذا دليلا على أنها مختصة بالانبياء ومن أطلق خرق العادة ولم يفسره ويبينه فلم يعرف خاصتها بل ظن أن ما وجد من السحر والكهانة خرق عادة أو ظن أن خرق العادة أن لا يعارضها معارض من المرسل اليهم وكثير من المتنبئين الكذابين أتوا بخوارق من جنس خوارق السحرة والكهان ولم يكن من أولئك القوم من أتى بمثلها لكن قد علم أن في العالم مثلها في غير ذلك المكان أو في غير ذلك الزمان وإنما الخارق كما قال في القرآن قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولهذا قال في آيات التحدي أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقال في تلك الآية فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا أن ما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فلم يكتف بعجز المدعوين بل أمرهم أن يدعوا الى معاونتهم كل من استطاعوا أن يدعوه من دون الله وهذا تعجيز لجميع الخلق الانس والجن والملائكة وقال في البقرة وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين أي ادعوا كل من يشهد لكم فيوافقكم على أن هذا ليس من عند الله ادعوا كل من لم يقر بأن هذا منزل من الله فهذا تعجيز لكل من لم يؤمن به ومن آمن به وبقي في ريب بل قد علم أنه من عند الله وهذا التحدي في البقرة وهي مدنية بعد يونس وهود ولهذا قال وإن كنتم في ريب وهناك قال ام يقولون افتراه فهذا تحد لكل مرتاب وذاك تحد لكل مثل مكذب ولهذا قيل في ذلك من استطعتم فإنه أبلغ وقيل في هذا شهداءكم وقد قال بعض المفسرين شهداءكم آلهتكم وقال بعضهم من يشهد أن الذي جئتم به مثل القرآن والصواب أن شهداءهم الذين يشهدون لهم كما ذكره ابن اسحاق باسناده المعروف عن ابن عباس قال شهداءكم من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه وقال السدي عن أبي مالك شهداءكم من دون الله أي شركاءكم فإن هؤلاء هم الذين يتصور منهم المعارضة اذا كانوا في ريب منه أما من أيقن أنه من عند الله فانه يمتنع أن يقصد معارضته لعلمه بان الخلق عاجزون عن ذلك والله تعالى شهد لمحمد بما أظهره من الآيات فادعوا من يشهد لكم وهؤلاء يشهدون من دون الله لا يشهدون بما شهد الله به فتكون شهادتهم مضادة لشهادة الله كما قال لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وقال قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب كما قال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم وقد قلنا يجوز أن تكون آياتهم خارقة لعادة جميع الخلق الا للنبي لكن لا يجب هذا فيها فإن قيل قد ذكرتم أن آيات الانبياء هي الخوارق التي تخرق عادة جميع الثقلين فلا تكون لغير الانبياء ولغير من شهد لهم بالنبوة وهذا كلام صحيح فصلتم به بين آيات الانبياء وغيرهم بفصل مطرد منعكس بخلاف من قال هي خرق العادة ولم يميز بينها وبين غيرها وتكلم في خرق العادة بكلام متناقض تارة يمنع وجود السحر والكهانة وتارة يجعل هذا الجنس من الآيات ولكن الفرق عدم المعارضة لكن لم يذكروا الفرق في نفس الامر ونفس كونها معجزة وخارقا وآية لماذا كان وما هو الوصف الذي امتازت به حتى صارت آية ودليلا دون غيرها فذكرتم الدليل لكن لم تذكروا الحقيقة التي بها صار الدليل دليلا قيل لا بد أن تكون مما يعجز عنها الانس والجن فان هذين الثقلين بعث اليهم الرسل كما قال تعالى يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وقال تعالى وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين والانس والجن منهم من آمن بالرسل ومنهم من كذبهم فلا بد أن يكون مما لا يقدر عليها جنس الانس والجن ثم الكرامات يخص بها المؤمنين من الطائفتين وأما آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم وبها وجب على الناس الإيمان بهم فهي أمر يخص الانبياء لا يكون للاولياء ولا لغيرهم بل يكون من المعجزات الخارقة للعادات الناقضة لعادات جميع الانس والجن غير الانبياء فما كان الإنس أو الجن يقدرون عليه فلا يكون وحده آية للنبي وما تقدر عليه الملائكة فذاك قد يكون من آياتهم لانهم لم يرسلوا الى الملائكة والملائكة لا تفعل شيئا الا بإذن الله فما تفعله الملائكة معهم فهو بإذن الله وهو ما خص به الانبياء بخلاف الإنس والجن وخاصتها التي تمتاز بها عن غيرها أن تكون آية ودليلا على نبوتهم فكل ما استلزم نبوتهم فهو آية لهم وما لا يستلزم نبوتهم فليس بآية وليست مختصة بجنس من الموجودات بل تكون في جنس العلم والاخبار بغيب الرب الذي اختص به وتكون في جنس القدرة والتصرف والتأثير في العالم وهي مقدورة للرب فله سبحانه أن يجعلها في أي جنس كان من المقدورات ولهذا تنوعت آيات الانبياء بل النبي الواحد تتنوع آياته فليس القرآن الذي هو قول الله وكلامه من جنس انشقاق القمر ولا هذا وهذا من جنس تكثير الطعام والشراب كنبع الماء من بين الاصابع وهذا كما أن آيات الرب الدالة على قدرته ومشيئته وحكمته وأمره ونهيه لا تختص بنوع فكذلك آيات أنبيائه فهذا مما ينبغي أن يعرف ولكن خاصتها أنها لا تكون إلا مستلزمة لصدق النبي وصدق الخبر بأنه من نبي فلا تكون لمن يكذبه قط ولا يقدر أحد من مكذبي الانبياء أن يأتي بمثل آيات الانبياء وأما مصدقوهم فهم معترفون بأن ما يأتون به هو من آيات الانبياء مع أنه لا تصل آيات الاتباع الى مثل آيات المتبوع مطلقا وإن كانوا قد يشاركونه في بعضها كاحياء الموتى وتكثير الطعام والشراب فلا يشركونه في القرآن وفلق البحر وانشقاق القمر لأن الله فضل الانبياء على غيرهم وفضل بعض النبيين على بعض فلا بد أن يمتاز الفاضل بما لا يقدر المفضول على مثله اذ لو أتى بمثل ما أتى لكان مثله لا دونه

فصل

وكثير من هؤلاء مضطربون في مسمى العادة التي تخرق والتحقيق أن العادة أمر إضافي فقد يعتاد قوم مالم يعتده غيرهم فهذه إذا خرقت فليست إلا لصدق النبي لا توجد بدون صدقه والرب تعالى في الحقيقة لا ينقض عادته التي هي سنته التي قال فيها سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وقال فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وهي التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فهو سبحانه إذا ميز بعض المخلوقات بصفات يمتاز بها عن غيره ويختصه بها قرن بذلك من الأمور ما يمتاز به عن غيره ويختص به ولا ريب أن النبوة يمتاز بها الأنبياء ويختصون بها والله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وهو أعلم حيث يجعل رسالته فمن خصه بذلك كان له من الخصائص التي لا تكون لغيره ما يناسب ذلك فيستدل بتلك الخصائص على أنه من أهل الاختصاص بالنبوة وتلك سنته وعادته في أمثاله يميزهم بخصائص يمتازون بها عن غيرهم ويعلم أن أصحابها من ذلك الصنف المخصوص الذين هم الانبياء مثلا ولم تكن له سبحانه عادة بان يجعل مثل آيات الانبياء لغيرهم حتى يقال إنه خرق عادته ونقضها بل عادته وسنته المطردة أن تلك الآيات لا تكون الا مع النبوة والإخبار بها لا مع التكذيب بها أو الشك فيها كما أن سنته وعادته أن محبته ورضاه وثوابه لا يكون إلا لمن عبده وأطاعه وأن سنته وعادته أن يجعل العاقبة للمتقين وسنته وعادته أنه ينصر رسله والذين آمنوا كما قال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وكل ما يظن أنه خرقه من العادات فله أسباب انخرقت فيها تلك العادات فعادته وسنته لا تتبدل اذ أفعاله جارية على وجه الحكمة والعدل هذا قول الجمهور وأما من لا يثبت سببا ولا حكمة ولا عدلا فإنهم يقولون انه يخرق عادات لا لسبب ولا لحكمة ويجوزون أن يقلب الجبل ياقوتا والبحر لبنا والحجارة آدميين ونحو ذلك مع بقاء العالم على حاله ثم يقولون مع هذا ولكن نعلم بالضرورة أنه لم يفعل ذلك ويقولون العقل هو علوم ضرورية كالعلوم بجاري العادات وهذا تناقض بين فإنهم اذا جوزوا هذا ولم يعلموا فرقا بين ما يقع منه وما لا يقع كان الجزم بوقوع هذا دون هذا جهلا وغاية ما عندهم ان قالوا يخلق في قلوبنا علم ضروري بأن هذا لم يقع ويخلق في قلوبنا علم ضروري بأن الله خرق العادة لتصديق هذا النبي فيقال اذا كان قد جعل الله في قلوبكم علما ضروريا كما جعله في قلوب أمثالكم فأنتم صادقون فيما تخبرون به عن أنفسكم من العلم الضروري لكن خطاكم اعتقادكم أن العادات قد ينقضها الله بلا سبب ولا لحكمة فهذا ليس معلوما لكم بالضرورة وخطاكم من حيث جوزتم ان يكون شيئان متساويان من كل وجه ثم يعلم بضرورة أو نظر ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر فإن هذا تفريق بين المتماثلين وهذا قدح في البديهيات فإن أصل العلوم العقلية النظرية اعتبار الشيء بمثله وأن حكمه حكم مثله فإذا جوزتم أن يكون الشيئان متماثلين من كل وجه وأن العقل يجزم بثبوت أحدهما وانتفاء الآخر كان هذا قدحا في أصل كل علم وعقل وإذا قلتم ان العادات جميعها سواء وان الله يفعل ما يفعل بلا سبب ولا حكمة بل محض المشيئة مع القدرة رجحتم هذا على هذا وقلتم لا فرق بين قلب الجبال بواقيت والبحار لبنا وبين غير ذلك من العادات وجوزتم أن يجعل الله الحجارة آدميين علماء من غير سبب تغير به المخلوقات كان هذا قدحا في العقل فلا أنتم عرفتم سنة الله المعتادة في خلقه ولا عرفتم خاصة العقل وهو التسوية بين المتماثلين فإنه سبحانه لم يخرق قط عادة الا لسبب يناسب ذلك فلق البحر لموسى وغير ذلك من الآيات التي بعث بها فإن ذلك خلقه ليكون آية وعلامة وكان ذلك بسبب نبوة موسى وانجائه قومه وبسبب تكذيب فرعون ومن جوز أن ذلك البحر أو غيره ينفلق كما انفلق لموسى من غير أن يكون هناك سبب إلهي يناسب ذلك فهو مصاب في عقله ولهذا اضطرب أصحاب هذا القول ولم يكن عندهم ما يفرقون بين دلائل النبوة وغيرها وكانت آيات الانبياء والعلم بأنها آيات ان حققوها على وجهها فسدت أصولهم وإن طردوا أصولهم كذبوا العقل والسمع ولم يمكنهم لا تصديق الانبياء ولا العلم بغير ذلك من أفعال الله تعالى التي يفعلها بأسباب وحكم كما قد بسط هذا في موضع آخر

فصل

ودليل الشيء مشروط بتصور المدلول عليه فلا يعرف آيات الانبياء إلا من عرف ما اختص به الانبياء وامتازوا به عمن سواهم والنبوة مشتقة من الانباء والنبي فعيل وفعيل قد يكون بمعنى فاعل أي منبئ وبمعنى مفعول أي منبأ وهما هنا متلازمان فالنبي الذي ينبئ بما أنبأه الله به والنبي الذي نبأه الله وهو منبأ بما أنبأه الله به وما أنبأه الله به لا يكون كذبا وما أنبأ به النبي عن الله لا يكون يطابق كذبا لا خطأ ولا عمدا فلا بد أن يكون صادقا فيما يخبر به عن الله يطابق خبره مخبره لا تكون فيه مخالفة لا عمدا ولا خطأ وهذا معنى قول من قال هم معصومون فيما يبلغونه عن الله لكن لفظ الصادق وإن النبي صادق مصدوق نطق به القرآن وهو مدلول الآيات والبراهين ولفظ العصمة في القرآن جاء في قوله والله يعصمك من الناس أي من أذاهم فمعنى هذا اللفظ في القرآن هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأ وعمدا والتعبير عن حقائق الايمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها فان ألفاظ القرآن يجب الايمان بها وهي تنزيل من حكيم حميد والأمة متفقة عليها ويجب الاقرار بمضمونها قبل أن تفهم وفيها من الحكم والمعاني مالا تنقضي عجائبه والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق وقد يضطرب في معناه وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والاسلام كما قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها بيانا شافيا فإنها تنظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل كما قال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال تلك آيات الكتاب الحكيم وفيه من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد مالا يوجد في كلام أحد من العباد ففيه أصول الدين المفيدة لليقين وهي أصول دين الله ورسوله لا اصول دين محدث ورأي مبتدع وقد يكون معصوما على لغة القرآن بمعنى أن الله عصمه من الشياطين شياطين الانس والجن وأن يغيروا ما بعث به أو يمنعوه عن تبليغه فلا يكتم ولا يكذب كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه وهذا في معنى عصمته من الناس فهو المؤيد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن حتى يبلغ رسالات ربه كما أمر فلا يكون فيها كذب ولا كتمان ولفظ الإنباء يتضمن معنى الإعلام والإخبار لكنه في عامة موارد استعماله أخص من مطلق الأخبار فهو يستعمل في الإخبار بالامور الغائبة المختصة دون المشاهدة المشتركة كما قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وقال فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير وقال قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون وقال عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذين هم فيه مختلفون وقال وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كان فيكم ما قاتلوا إلا قليلا وقال ولتعلمن نبأه بعد حين وقال لكل نبأ مستقر وقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين الى قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وقوله يعتذرون اليكم اذا رجعتم اليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون فهذا في خطاب المنافقين ولم يقل والمؤمنون لأنهم لم يكونوا يطلعون المؤمنين على ما في بطونهم وهذا بخلاف قوله يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها فإنها أمور مشهودة يعرفها الناس لكن العجب كون الأرض تخبر بذلك فالعجب في المخبر لا في الخبر كشهادة الأعضاء وقال قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم ان كنتم صادقين وجمع النبي أنبياء مثل ولي وأولياء ووصي وأوصياء وقوي وأقوياء ويشبهه حبيب وأحباء كما قال تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ففعيل اذا كان معتلا أو مضاعفا جمع على أفعلاء بخلاف حكيم وحكماء وعليم وعلماء وهو من النبا وأصله الهمزة وقد قرئ به وهي قراءة نافع يقرأ النبئ لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية وفي البرية وقد قيل هو من النبو وهو العلو فمعنى النبي المعلى الرفيع المنزلة والتحقيق أن هذا المعنى داخل في الأول فمن أنبأه الله وجعله منبئا عنه فلا يكون الا رفيع القدر عليا وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة اذ كان هذا يوصف به من ليس بنبي بل يوصف بأنه الأعلى كما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون وقراءة الهمز قاطعة بأنه مهموز وما روي عن النبي ﷺ أنه قال أنا نبي الله ولست بنبئ الله فما رأيت له إسنادا لا مسندا ولا مرسلا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث ولا السير المعروفة ومثل هذا لا يعتمد عليه واللفظان مشتركان في الاشتقاق الأكبر فكلاهما فيه النون والباء وفي هذا الهمزه وفي هذا الحرف المعتل لكن الهمزة أشرف فإنها أقوى قال سبويه هي نبوة من الخلق تشبه التهوع فالمعنى الذي يدل عليه ويمكن أن تلين فتصير حرفا معتلا فيعبر عنه باللفظين بخلاف المعتل فإنه لا يجعل همزة فلو كان أصله نبي مثل علي ووصي وولي لم يجز أن يقال بالهمز كما لا يقال علئ ووصيء ووليء بالهمز وإذا كان أصله الهمز جاز تليين الهمزة وإن لم يكثر استعماله كما في لفظ خبئ وخبيئة وأيضا فإن تصريفه أنبأ ونبأ وينبئ بالهمزة ولم يستعمل فيه نبا ينبو وإنما يقال هذا ينبو عنه والماء ينبو عن القدم اذا كان يجفو عنها ويقال النبوة وفي فلان نبوة عنا أي مجانبة فيجب القطع بأن النبي ماخوذ من الإنباء لا من النبوة والله أعلم

فصل

قد تقدم أن للناس في وجه دلالة المعجزات وهي آيات الأنبياء على نبوتهم طرقا متعددة منهم من قال دلالتها على التصديق تعلم بالضرورة ومنهم من قال تعلم بالنظر والاستدلال وكلا القولين صحيح فإن كثيرا من العلوم في هذا الباب كدلالة الأخبار المتواترة فإنه قد يحصل بالخبر علم ضروري وقد يحصل العلم بالاستدلال وطائفة منهم الكعبي وأبو الحسين البصري وأبو الخطاب أنه نظري والتحقيق أن كلا القولين حق فإنه يحصل بها علم ضروري والادلة النظرية توافق ذلك وكذلك كثير من الادلة والعلامات والآيات من الناس من يعرف استلزامها للوازمها بالضرورة ويكون اللزوم عنده بينا لا يحتاج فيه إلى وسط ودليل ومنهم من يفتقر إلى دليل ووسط يبين له ان هذا الدليل مستلزم لهذا الحكم لازم له ومن تأمل معارف الناس وجد أكثرها من هذا الضرب فقد يجيء المخبر اليهم بخبر فيعرف كثير منهم صدقه أو كذبه بالضرورة لأمور تقترن بخبره وآخرون يشكون في هذا ثم قد يتبين لبعضهم بأدلة وقد لا يتبين وكثير من الناس يعلم صدق المخبر بلا آية البتة بل إذا أخبره وهو خبير بحاله أو بحال ذلك المخبر به أو بهما علم بالضرورة إما صدقه وإما كذبه وموسى بن عمران لما جاء إلى مصر فقال لهارون وغيره ان الله أرسلني علموا صدقه قبل أن يظهر لهم الآيات ولما قال لهارون ان الله قد أمرك أن تؤازرني صدقه هارون في هذا لما يعلم من حاله قديما ولما رأى من تغير حاله الدال على صدقه وكذلك النبي ﷺ لما ذكر حاله لخديجة وغيرها وذهبت به الى ورقة بن نوفل وكان عالما بالكتاب الأول فذكر له النبي ﷺ ما يأتيه علم أنه صادق وقال هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى ياليتني فيها جذعا ياليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله ﷺ أومخرجي هم قال نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا وكذلك النجاشي لما سمع القرآن قال إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك أبو بكر وزيد بن حارثة وغيرهما علموا صدقه علما ضروريا لما أخبرهم بما جاء به وقرأ عليهم ما أنزل عليه وبقي القرآن الذي قرأه آية وما يعرفون من صدقه وأمانته مع غير ذلك من القرائن يوجب علما ضروريا بأنه صادق وخبر الواحد المجهول من آحاد الناس قد تقترن به القرائن يعرف بها صدقه بالضرورة فكيف

بمن عرف صدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذي لا يقوله إلا من هو من أصدق الناس أو من أكذبهم وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني فإذا كان العلم بصدقه بلا آية قد يكون علما ضروريا فكيف بالعلم بكون الآية علامة على صدقه وجميع الأدلة لا بد أن تعرف دلالتها بالضرورة فإن الأدلة النظرية لا بد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية وأكثر الخلق اذا علموا ما جاء به موسى والمسيح ومحمد علموا صدقهم بالضرورة ولهذا لا يوجد أحد قدح في نبوتهم إلا أحد رجلين إما رجل جاهل لم يعرف أحوالهم واما رجل معاند متبع لهواه وعامة من كذبهم في حياتهم كان معاندا فالرؤساء كذبوهم لئلا تزول رئاستهم أو مأكلتهم والاتباع طاعة لكبرائهم كما أخبر الله بمثل ذلك في غير موضع من القرآن لم يكن التكذيب لقيام حجة تدل على الكذب فإنه يمتنع قيام دليل يدل على الكذب فالمكذب مفتر متكلم بلا علم ولا دليل قطعا وكذلك كل من كذب بشيء من الحق أو صدق بشيء من الباطل يمتنع أن يكون عليه دليل صحيح فإن الدليل الصحيح يستلزم مدلوله فإذا كان المدلول منتفيا امتنع أن يكون عليه دليل صحيح وكثير من الناس قد يكون شاكا لعدم طلبه العلم وإعراضه عنه فالمكذب متكلم بلا علم قطعا والشاك معرض عن طلب العلم مقصر مفرط ولو طلب العلم تبين له الحق اذا كان متمكنا من معرفة أدلة الحق وأما من لم يصل اليه الدليل ولا يتمكن من الوصول اليه فهذا عاجز وأما الذين سلكوا طريق الحكمة فلهم أيضا مسالك مثل أن يقال ان الله سبحانه وتعالى اذا بعث رسولا أمر الناس بتصديقه وطاعته فلا بد أن ينصب لهم دليلا يدلهم على صدقه فإن ارسال رسول بدون علامة وآية تعرف المرسل اليهم أنه رسول قبح وسفه في صرائح العقول وهو نقص في جميع الفطر وهو سبحانه منزه عن النقائص والعيوب ولهذا ينكر على المشركين أنهم يصفونه بما هو عندهم عيب ونقص لا يرضونه لأنفسهم مثل كون مملوك أحدهم شريكه يساويه فإن هذا من النقائص والعيوب التي ينزهون أنفسهم عنها ويعيبون ذلك على من فعله من الناس فإذا كان هذا عيبا ونقصا لا يرضاه الخلق لانفسهم لمنافاته الحكمة والعدل فإن الحكمة والعدل تقتضي وضع كل شيء موضعه الذي يليق به ويصلح به فلا تكون العين كالرجل ولا الإمام الذي يؤتم به في الدين والدنيا في آخر المراتب والسفلة من أتباعه في أعلى المراتب فكذلك المالك لا يكون مملوكه مساويا له فإن ذلك يناقض كون أحدهما مالكا والآخر مملوكا ولهذا جاءت الشريعة بأن المرأة لا تتزوج عبدها لتناقض الأحكام فان الزوج سيد المرأة وحاكم عليها والمالك سيد المملوك وحاكم عليه فإذا جعل مملوكها زوجها الذي هو سيدها تناقضت الأحكام فهذا وأمثاله مما يبين أن هذه القضية مستقرة في فطر العقلاء ولهذا قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم أي كما يخاف بعضكم بعضا كذلك يفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين وكذلك كل أحد يعلم بفطرته أن الذكر أفضل من الأنثى وكانت العرب أشد كراهية للبنات من غيرهم حتى كان منهم ن يئد البنات ويدفن البنت وهي حية حتى قال تعالى وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وقال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب وكانوا لا يورثون الاناث وقد قالت أم مريم ولس الذكر كالأنثى وكان من الكفار من جعل له الإناث أولادا وشركاء قال تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ان هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وقال تعالى ان الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا وقال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون يعني ساء الحكم حكمهم أي بئس الحكم حكمهم كما يقال بئسما فعل وبئسما حكم حيث حكموا بأن لله البنات ولهم ما يشتهون فهذا حكم جائر كما أن تلك القسمة قسمة جائرة عوجاء فهذا حكمهم بينهم وبين ربهم وهذا قسمهم يجعلون لانفسهم أفضل النوعين ولربهم أدنى النوعين وهو مثل السوء ولله المثل الأعلى فالواجب أن يكون أفضل الأنواع وأكملها لله وما فيها نقص وعيب فالمخلوق أحق بها من الخالق اذ كان كل كمال في المخلوق فهو من خالقه فيمتنع أن يكون الانقص خلق الاكمل والفلاسفة يقولون بعبارتهم كل كمال في المعلول فهو من العلة وأيضا فالموجود الواجب أكمل من الممكن والقديم أكمل من المحدث والغني أكمل من الفقير فيمتنع اتصاف الأكمل بالنقائص واتصاف الأنقص بالكمالات ولهذا يوصف سبحانه بأنه الأكرم والأكبر والأعلى وأنه أرحم الراحمين وخير الحاكمين وخير الغافرين وأحسن الخالقين فلا يوصف قط الا بما يوجب اختصاصه بالكمالات والممادح والمحاسن التي لا يساويه فيها غيره فضلا عن أن يكون لغيره النوع الفاضل وله النوع المفضول ولهذا عاب الله المشركين بان جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون فبئس الحكم حكمهم في هذا كما أنه بئس الحكم حكمهم في جعل الذكور لهم والاناث له وساء بمعنى بئس كقوله ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا أي بئس مثلا مثلهم ولهذا قالوا في قوله ساء ما يحكمون بئسما يقضون وقال تعالى أفاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما وقال تعالى وجعلوا له من عباده جزءا ان الانسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون فهذه الطريقة وهي أن ما يستحقه المخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه فالخالق أولى به وما ينزه عنه المخلوق من العيوب المذمومة فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم وهو سبحانه القدوس السلام الحميد المجيد من ابلغ الطرق البرهانية وهي مستعملة في القرآن في غير موضع فلذلك يقال الواحد من الناس قادر على ارسال رسول وعلى أن يرسل نشابة وعلامة يعرف المرسل اليهم بها صدقه فكيف لا يقدر الرب على ذلك ثم اذا أرسله اليهم وأمرهم بتصديقه وطاعته ولم يعرفهم أنه رسوله كان هذا من أقبح الامور فكيف يجوز مثل هذا على الله ولو بعثه بعلامة لا تدلهم على صدقه كان ذلك عيبا مذموما فكل ما ترك من لوازم الرسالة اما أن يكون لعدم القدرة واما أن يكون للجهل والسفة وعدم الحكمة والرب أحق بالتنزيه عن هذا وهذا من المخلوق فإذا أرسل رسولا فلا بد أن يعرفهم أنه رسوله ويبين ذلك وما جعله آية وعلامة ودليلا على صدقه امتنع أن يوجد بدون الصدق فامتنع أن يكون للكاذب المتنبي فان ذلك يقدح في الدلالة فهذا ونحوه مما تعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب فكيف اذا انضم الى ذلك ان هذه سنته وعادته وأن هذا مقتضى عدله وكل ذلك عند التصور التام يوجب علما ضروريا بصدق الرسول الصادق وأنه لا يجوز أن يسوي بين الصادق والكاذب فيكون ما يظهره النبي من الآيات يظهر مثله على يد الكاذب اذ لو فعل هذا لتعذر على الخلق التمييز بين الصادق والكاذب وحينئذ فلا يجوز أن يؤمروا بتصديق الصادق ولا يذموا على ترك تصديقه وطاعته اذ الامر بذلك بدون دليله تكليف مالا يطاق وهذا لا يجوز في عدله وحكمته ولو قدر أنه جائز عقلا فإنه غير واقع

فصل

وقد دل القرآن على أنه سبحانه لا يؤيد الكذاب عليه بل لا بد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه فقال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين ذكر هذا بعد قوله فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ثم قال ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين هذا بتقدير أن يتقول بعض الاقاول فكيف بمن يتقول الرساله كلها وقوله لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الوتين عرق في الباطن يقال هو نياط القلب اذا قطع مات الانسان عاجلا وذلك يتضمن هلاكه لو تقول على الله وقوله لأخذنا منه باليمين قيل لاخذنا بيمينه كما يفعل بمن يهان عند القتل فيقال خذ بيده فيجر بيده ثم يقتل فهذا هلاك بعزة وقدرة من الفاعل وإهانة وتعجيل هلاك للمقتول وقيل لاخذنا منه باليمين أي بالقوة والقدرة فان الميامن أقوى ممن يأخذ بشماله كما قال فاخذناهم أخذ عزيز مقتدر وكما قال ان بطش ربك لشديد لكنه قال أخذنا منه ولم يقل لأخذناه فهذا يقوي القول الأول وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ يختم على قلبك ثم قال ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته فقوله ويمحو الله الباطل عطف جملة على جملة قالوا وليس من جواب الشرط لأنه قال ويحق الحق بالضم وهو معطوف على قوله يمحو الله الباطل فمحوه للباطل وإحقاقه الحق خبر منه لا بد أن يفعله فقد بين أنه لا بد أن يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته فانه اذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق إذا كانت آية له وبين بها الحق من الباطل وهو أيضا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته فإنه إذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق إذا كانت آية له وبين بها الحق من الباطل وهو أيضا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته التي تكون بها الأشياء فيحق الحق بما يظهره من الآيات وما ينصر به أهل الحق كما تقدمت كلمته بذلك كما قال ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا وقال وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين وقال تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه وأمره يتضمن ما يأمر به وهو الكائن بكلماته وقال تعالى انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وكلماته صدق وعدل والعدل وضع الاشياء مواضعها فمن عدله أن يجعل الصادق عليه المبلغ لرسالته حيث يصلح من كرامته ونصره وأن يجعل الكاذب عليه حيث يليق به من اهانته وذله قال تعالى ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين قال ابو قلابة هي لكل مفتر الى يوم القيامة ومن أعظم الافتراء عليه دعوى النبوة والرسالة كذبا كما قال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وذكر في هذا الكلام جميع أصناف الكاذبين الذين يعارضون رسله الصادقين كما ذكر فيما قبله حال الكاذبين في قوله وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ثم قال ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء الآية فان الكاذب إما أن يقول ان غيري أنزل علي وإما أن يقول أنا أصنف مثل هذا القرآن وإذا قال غيري أنزل علي فأما أن يعينه فيقول أن الله أنزله علي وإما أن يقول أوحي ولا يعين من أوحاه فذكر الأصناف الثلاثة فقال ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء فهذان نوعان من جنس ثم قال ومن لم يقل أو قال اذ كان هذا معارضا لا يدعي أنه رسول فقال ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهؤلاء المعارضون قد تحداهم في غير موضع وقال قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا والرسول أخبر بهذا خبرا تاما في أول الامر وهذا لا يمكن إلا مع قطعه أنه على الحق وإلى الآن لم يوجد أحد أنزل مثل ما أنزل الله قوله ومن قال سأنزل ولم يقل أقدر أن أنزل فإن قوله سأنزل هو وعد بالفعل وبه يحصل المقصود بخلاف قوله أقدر فانه لا يحصل به غرض المعارض وإنما يحصل إذا فعل فمن وعد بانزال مثل ما أنزل كان من أظلم الناس وأكذبهم اذ كان قد تبين عجز جميع الثقلين الانس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن وقوله مثل ما أنزل الله يقتضي أن كل ما أنزله الله على أوليائه فهو معجز لا يقدر عليه الا الله كالتوراة والانجيل والزبور وهذا حق فإن في ذلك من أنباء الغيب مالا يعلمه الا الله وفيه أيضا من تأييد الرسل بذلك مالا يقدر على أن يرسل بتلك الرسالة إلا الله فلا يقدر أحد أن ينزل مثل ما أنزل الله على نبيه فيكون به مثل الرسول ولا أن يرسل به غيره

فصل

والاستدلال بالحكمة أن يعرف أولا حكمته ثم يعرف أن من حكمته أنه لا يسوي بين الصادق بما يظهر به صدقه وبأن ينصره ويعزه ويجعل له العاقبة ويجعل له لسان صدق في العالمين والكاذب عليه يبين كذبه ويخذله ويذله ويجعل عاقبته عاقبة سوء ويجعل له لسان الذم واللعنة في العالمين كما قد وقع فهذا هو الواقع لكن المقصود أن نبين أن ما وقع منه فهو واجب الوقوع في حكمته لا يجوز أن يقع منه ضد ذلك فهذا استدلال ببيان أنه يجب أن يقع منه ما يقع ويمتنع أن يقع منه ضده وذلك ببيان أنه حكيم وأن حكمته توجب أن يبين صدق الانبياء وينصرهم ويبين كذب الكاذبين ويذلهم كذلك يفعل بأتباع النبيين وبأعدائهم كما أخبر بذلك في كتابه وبين أن هذا حق عليه يجب أن يفعله ويمتنع أن يفعل ضده كما قال تعالى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا الى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين وكما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز وقوله لأغلبن قسم أقسم الله عليه فهو جواب قسم تقديره والله لاغلبن أنا ورسلي وهذا يتضمن إخباره بوقوع ذلك وأنه كتب على نفسه ذلك وأمر به نفسه وأوجبه على نفسه فإن صيغة القسم تتضمن التزام ما حلف عليه إما حضا عليه وأمرا به وإما منعا منه ونهيا عنه ولهذا كان في شرع من قبلنا يجب الوفاء بذلك ولا كفارة فيه وكذلك كان في أول الاسلام ولهذا كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين كما ذكرت ذلك عائشة ولهذا أمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث فإن ذلك صار واجبا باليمين كوجوب المنذور الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع والضرب بالضغث يجوز في الحدود اذا كان المضروب لا يحتمل التفريق كما جاء في الحديث ولو كان في شرعهم كفارة لأغنت عن الضرب مطلقا لكن الإنسان قد يلتزم مالا يعلم عاقبته ثم يندم عليه والرب تعالى عالم بعواقب الامور فلا يحلف على أمر ليفعلنه إلا وهو يعلم عاقبته واليمين موجبة ولهذا قال تعالى كتب الله لأغلبن وكتب مثل كتب في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة فهي كتابة تتضمن خبرا وايجابا ومنه قوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وفي الحديث الصحيح الآلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وقد بسط هذا الأصل في مواضع مثل الكلام في مسألة القدر المختار ومسألة العدل والظلم وغير ذلك فان كثيرا من المتكلمين يقول ان القادر المختار لا يفعل الا بوصف الجواز فيفعل الفعل في حال تردده بين أن يفعل وأن لا يفعل ومنهم من يقول يفعله مع رجحان أن يفعل رجحانا لا ينتهي إلى حد الوجوب وهو قول محمد بن الهيضم الكرامي ومحمود الخوارزمي المعتزلي وبهذا استطال عليهم الفلاسفة فقالوا الرب موجب لأن الممكن لا يقع حتى يحصل المؤثر التام الموجب له والتحقيق أن الرب يخلق بمشيئته وقدرته وهو موجب لكل ما يخلقه بمشيئته وقدرته ليس موجبا بمجرد الذات ولا موجبا بمعنى أن موجبه يقارنه فإن هذا ممتنع فهذان معنيان باطلان وهو قادر يفعل بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاءه وجب كونه وما لم يشأه امتنع كونه ولهذا قال كثير من النظار إن الارادة موجبة للمراد وعلى هذا فقولنا يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون إنما هو جواز الشيء بمعنى الشك في أيهما هو الواقع وإلا ففي نفس الامر أحدهما هو الواقع ليس في نفس الامر ظنيا مترددا بين الوقوع وعدم الوقوع والامكان الذهني قد يراد به عدم العلم بالامتناع وقد يراد به الشك في الواقع وكلا النوعين عدم علم والامكان الخارجي يراد به أن وجوده في الخارج ممكن لا ممتنع كولادة النساء ونبات الارض وأما الجزم بالوقوع وعدمه فيحتاج الى دليل وفي نفس الامر ما ثم الا ما يقع أو لا يقع والواقع لا بد من وقوعه ووقوعه واجب لازم وما لا يقع فوقوعه ممتنع لكن واجب بغيره وممتنع لغيره وهو واجب من جهات من جهة علم الرب من وجهين ومن جهة إرادته من وجهين ومن جهة كلامه من وجهين ومن جهة كتابته من وجهين ومن جهة رحمته ومن جهة عدله أما علمه فما علم انه سيكون فلا بد أن يكون وما علم أنه لا يكون فلا يكون وهذا مما يعترف به جميع الطوائف إلا من ينكر العلم السابق كغلاة القدرية الذين تبرأ منهم الصحابة ومن جهة أنه يعلم ما في ذلك الفعل من الحكمة فيدعوه علمه إلى فعله أو ما فيه من الفساد فيدعوه الى تركه وهذا يعرفه من يقر بأن العلم داع ومن يقر بالحكمة ومن جهة إرادته فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومن جهة حكمته وهي الغاية المرادة لنفسها التي يفعل لأجلها فاذا كان مريدا للغاية المطلوبة لزم أن يريد ما يوجب حصولها ومن جهة كلامه من وجهين من جهة أنه اخبر به وخبره مطابق لعلمه ومن جهة أنه أوجبه على نفسه وأقسم ليفعلنه وهذا من جهة إيجابه على نفسه والتزامه أن يفعله ومن جهة كتابته إياه في اللوح وهو يكتب ما علم أن سيكون وقد يكتب إيجابه والتزامه كما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقال كتب ربكم على نفسه الرحمة فهذه عشرة أوجه تقتضي الجزم بوقوع ما سيكون وأن ذلك واجب حتم لا بد منه فما في نفس الأمر جواز يستوي فيه الطرفان الوجود والعدم وإنما هذا في ذهن الانسان لعدم علمه بما هو الواقع ثم من علم بعض تلك الاسباب علم الواقع فتارة يعلم لأنه أخبر بعلمه وهو ما أخبرت الانبياء بوقوعه كالقيامة والجزاء وتارة يعلم من جهة المشيئة لأنه جرت به سنته الشاملة التي لا تتبدل وتارة يعلم من جهة حكمته كما قد بسط في غير هذا الموضع والحكمة والعدل والرحمة والعادة تعلم بالعقل كما قد عرف من حكمة الرب وعدله وسنته ويستدل بذلك على العلم والخبر والكتاب كما أن العلم والخبر والكتاب يعلم بإخبار الانبياء ويستدل بذلك على العدل والحكمة والرحمة والجهمية المجبرة لا تجزم بثبوت ولا انتفاء إلا من جهة الخبر أو العادة اذ كانوا لا يثبتون الحكمة والعدل والرحمة في الحقيقة كما قد بسط في غير موضع وحكي عن الجهم أنه كان يخرج فينظر الجذمي ثم يقول أرحم الراحمين يفعل هذا يقول أنه يفعل لمحض المشيئة ولو كان يفعل بالرحمة لما فعل هذا وهذا من جهله لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة والرحمة والمصلحة والمجبرة المثبتة للقدر المتبعون لجهم والقدرية النفاة مناقضون لهم كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع وما زال العقلاء يستدلون بما علموه من صفات الرب على ما يفعله كقول خديجة للنبي ﷺ لما قال لها لقد خشيت على نفسي فقالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتصدق الحديث وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت بما فيه من مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال على أن الله لا يخزيه ومنه قوله تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم فان الشيطان إنما ينزل على ما يناسبه ويطلبه وهو يريد الكذب والإثم فينزل على من يكون كذلك وبسط هذا له موضع آخر والكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة التي توجب فعل ما تقتضيه الحكمة ويمتنع فعل ما تنفيه فنقول هو سبحانه وتعالى حكيم يضع كل شيء موضعه المناسب له فلا يجوز عليه ان يسوي بين جنس الصادق والكاذب والعادل والظالم والعالم والجاهل والمصلح والمفسد بل يفرق بين هذه الانواع بما يناسب الصادق العادل العالم المصلح من الكرامة وما يناسب الكاذب الظالم الجاهل المفسد من الهوان كما قال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين وهذا استفهام انكار على من ظن ذلك وهو يتضمن تقرير المخاطبين واعترافهم بان هذا لا يجوز عليه وأن ذلك بين معروف يجب اعترافهم به وإقرارهم به كما يقال لمن ادعى امرا ممتنعا مثل نعم كثيرة في موضع صغير فيقال له أههنا كانت هذه النعم أي هذا ممتنع فاعترف بالحق وإذا ادعى على من هو معروف بالصدق والامانة أنه نقب داره وأخذ ماله قيل له أهذا فعل هذا ومنه قوله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ونظائره كثيرة وكذلك قوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فإن هذا استفهام إنكار على حسب أنه يسوي بين هؤلاء وهؤلاء فبين أن هذا الحساب باطل وأن التسوية ممتنعة في حقه لا يجوز أن يظن به بل من ظن ذلك فقد ظن بربه ظن السوء وذلك ظن أهل الجاهلية الذين يظنون بالله ظن السوء

فمن جوز ذلك على الله فقد ظن بربه ظن السوء وقوله تعالى فيما جرى يوم أحد وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية فسره ابن عباس وغيره بأنهم ظنوا أن الله لم يقدر ما جرى وأنه لا ينصر رسوله فكما أن القدر يجب الايمان به ويعلم أن كل ما كان فقد سبق به علم الرب فكذلك يعلم أنه لا بد أن ينصر رسله والذين آمنوا وكما انه لا يجوز أن يقع خلاف المقدر فلا يجوز أن لا ينصر رسله والذين آمنوا ومثله قوله تعالى فيما أنزله عام الحديبية لما ظن ظانون أن الرسول وأتباعه لا ينصرون فقال تعالى ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا وهذا يدل على أن هذا ظن سوء بالله لا يجوز أن يظن به أن يفعل ذلك ومن ينفي الحكمة يقول يجوز عليه فعل كل شيء وليس عنده ظن سوء بالله وإن قيل لما أخبر أنه بنصره كان ضد ذلك ظن سوء لأن خبره لا يقع بخلاف مخبره قيل عن هذا جوابان أحدهما أن هؤلا يلزمهم تجويز إخلاف الوعد عليه لأن هذا من باب الافعال المقدورة وهو يجوزون كل مقدور وإذا قيل إخلاف الوعد قبيح فهم ليس عندهم شيء قبيح ينزهون الرب عنه الثاني أنه إذا علم أنه يفعله ولو بالعلم الضروري فإنما ذاك لأنه واقع ولو قدر أن رجلا ظن أن الله لا يفعل ما سيفعله مما ليس فيه ذم مثل أن يظن أنه يموت بعد شهر لم يقل أن هذا ظن سوء وإنما يكون ظن سوء اذا كان المظنون عيبا قبيحا لا يجوز أن يضاف الى المظنون به ومنه قوله تعالى إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر ويظنون بالله الظنونا فهذا ذم لمن ظن بالله الظنون ومن ذلك قوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وهذا يقتضي أن هذا ممتنع عليه ومن حكم بجوازه فقد حكم حكما باطلا جائرا ممتنعا كالذين جوزوا أن تكون له بنات وهم يكرهون أن تكون لهم بنات فيجوزون على الله ما هو قبيح عندهم قال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ومما يبين حكمته أن نقول أفعاله المحكمة المتقنة دلت على علمه وهذا مما وقع الاتفاق عليه من هؤلاء فإنهم يسلمون أن الإحكام والإتقان يدل على علم الفاعل وهذا أمر ضروري عندهم وعند غيرهم وهو من أعظم الادلة العقلية التي يجب ثبوت مدلولها والإحكام والإتقان انما هو أن يضع كل شيء في محله المناسب لتحصل به الحكمة المقصودة منه مثل الذي يخيط قميصا فيجعل الطوق على قدر العنق والكمين على قدر اليدين وكذلك الذي يبني الدار يجعل الحيطان متماثلة ليعتدل السقف والذي يصنع الإبريق يوسع ما يدخل منه الماء ويضيق ما يخرج منه وحكمة الرب في جميع المخلوقات باهرة قد بهرت العقلاء واعترف بها جميع الطوائف والفلاسفة من أعظم الناس إثباتا لها وهم يثبتون العناية والحكمة الغائية وإن كان فيهم من قصر في أمر الارادة والعلم وكذلك المتكلمون كلهم متفقون على إثبات الحكمة في مخلوقاته وإن كانوا في الارادة وفعله لغاية متنازعين وذلك مثلما في خلق الانسان وأدنى ذلك أن العين والفم والاذن فيها مياه ورطوبة فماء العين ملح وماء الفم عذب وماء الأذن مر فان العين شحمة والملوحة تحفظها أن تذوب وهذه أيضا حكمة تمليح البحر فان له سببا وحكمة فسببه سبوخة أرضه وملوحتها فهي توجب ملوحة مائه وحكمتها أنها تمنع نتن الماء بما يموت فيه من الحيتان العظيمة فإنه لولا ملوحة مائه لأنتن ولو أنتن لفسد الهواء لملاقاته له فهلك الناس بفساده وإذا وقع أحيانا قتل خلق كثير فإنه يفسد الهواء حتى يموت بسبب ذلك خلق كثير وماء الأذن مر ليمنع دخول الهوام إلى الأذن وماء الفم عذب ليطيب به ما يأكله فلو جعل الله ماء الفم مرا لفسد الطعام على أكلته ولو جعل ماء الاذن عذبا لدخل الذباب في الدماغ ونظائر هذا كثيرة فلا يجوز أن يفعل بخلاف ذلك مثل أن يجعل العينين في القدمين ويجعل الوجه خشنا غليظا كالقدمين فانه يفسد مصلحة النظر والمشي بل من الحكمة أنه جعل العينين في أعلى البدن في مقدمه ليرى بها ما أمامه فيدري أين يمشي وجعل الرجل خشنة تصبر على ما تلاقيه من التراب وغيره والعين لطيفة يفسدها أدنى شيء فجعل لها أجفانا تغطيها واهدابا فنقول هذا ومثله من مخلوقات الرب دل على أنه قد أحكم ما خلقه وأتقنه ووضع كل شيء بالموضع المناسب له وهذا يوجب العلم الضروري أنه عالم فيميز بين هذا وبين هذا حتى خص هذا بهذا وهذا بهذا وهو أيضا يوجب العلم الضروري بأنه أراد تخصيص هذا بهذا وهذا بهذا فدل على علمه وإرادته وهذا مما يسلمونه فنقول ودل أيضا على أنه جعل هذا لهذا فجعل ماء العين والبحر ملحا للحكمة المذكورة وجعل العين في أعلى البدن وجعل لها أجفانا للحكمة المذكورة وكذلك إذا أنزل المطر وقت الحاجة اليه علم أنه أنزله ليحيي به الأرض وكذلك إذا دعاه الناس مضطرين فأنزل المطر علم أنه أنزله ليحيي الأرض لاجابة دعائهم فلا يتصور أن يعلم أنه أراد هذا لهذا ولا يتصور الإحكام والاتقان إلا اذا فعل هذا للحكمة المطلوبة فكان ما علم من إحكامه وإتقانه دليلا على علمه وعلى حكمته أيضا وأنه يفعل لحكمة والذين استدلوا بالاحكام على علمه ولم يثبتوا الحكمة وأنه يفعل هذا لهذا متناقضون عند عامة العقلاء وحذاقهم معترفون بتناقضهم فإنه لا معنى للإحكام إلا الفعل لحكمة مقصودة فإذا انتفت الحكمة ولم يكن فعله لحكمة انتفى الاحكام وإذا انتفى الاحكام انتفى دليل العلم وإذا كان الاحكام معلوما بالضرورة ودلالته على العلم معلومة بالضرورة علم أن حكمته ثابتة بالضرورة وهو المطلوب وأيضا فإذا ثبت أنه عام فنفس العلم يوجب أنه لا يفعل قبيحا ولا يجوز أن يفعل القبيح الا من هو جاهل كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن العالم يعلم ما الذي يصلح أن يفعل وإن فعل هذا أولى من فعل هذا وإذا كان مريدا للفعل وقد علم أن الفعل على هذا الوجه هو الاصلح امتنع أن يريد الوجه الآخر والانسان لا يريد القبيح الا لنقص علمه ما أن يفعل بلا علم بل لمجرد الشهوة أو يظن خطأ فيظن أن هذا الفعل يصلح وهو لا يصلح فإنما يقع القبيح في فعله لفعله مع الجهل البسيط أو المركب والرب منزه عن هذا وهذا فيمتنع أن يفعل القبيح وأيضا فإنه قد ثبت أنه مريد وأن الارادة تخصص المراد عن غيره وهذا انما يكون اذا كان التخصيص لرجحان المراد اما لكونه أحب الى المريد وأفضل عنده فأما اذا ساوى غيره من كل وجه امتنع ترجيح الارادة له فكان اثبات الارادة مستلزما اثبات الحكمة والا لم تكن الارادة فقد تبين ثبوت حكمته من جهة علمه ومن جهة نفس أفعاله المتقنة المحكمة التي تدل على علمه بالاتفاق وهذه أصول عظيمة من تصورها تصورا جيدا انكشف له حقائق هذا الموضع الشريف وإذا ثبت أنه حكيم وأن حكمته لازمة لعلمه ولازمة لارادته وهما لازمان لذاته كانت حكمته من لوازم ذاته فيمتنع أن يفعل الا لحكمة وبحكمة ويمتنع أن يفعل على خلاف الحكمة ومعلوم بصريح العقل أن العلم خير من الجهل والصدق خير من الكذب والعدل خير من الظلم والاصلاح خير من الافساد ولهذا وجب اتصافه تعالى بالرحمة والعلم والصدق والعدل والاصلاح دون نقيض ذلك وهذا ثابت في خلقه وأمره فكما أنه في خلقه عادل حكيم رحيم فكذلك هو في أمره وما شرعه من الدين فإنه لا يكون الا عدلا وحكمة ورحمة ليس هو كما تقول الجهمية المجبرة ومن اتبعهم من أهل الكلام والرأي أنه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه اذا فعلوه وأن ما أمر به لا يجب أن يفعل على حكمة وينكرون تعليل الاحكام او يقولون أن علل الشرع أمارات محضة فهذا كله باطل كما قد بسط في مواضع بل ما يأمر به مصلحة لا مفسدة وحسن لا قبيح وخير لا فساد وحكمة وعدل ورحمة والحمد لله رب العالمين فإذا قدر رجلان ادعيا على الرب الرسالة أو توليا على الناس أو كانا من عرض الناس أحدهما عام صادق عادل مصلح والآخر جاهل ظالم كاذب مفسد ثم قدر أن ذلك العالم العادل عوقب في الدنيا والآخرة فاذل في الدنيا وقهر وأهلك وجعل في الآخرة في جهنم وذلك الظالم الكاذب الجاهل أكرم في الدنيا والآخرة وجعل في الدرجات العلى كان معلوما بالاضطرار أن هذا نقيض الحكمة والعدل وهو أعظم سفها وظلما من تعذيب ماء البحر وماء العين فإن هذا غايته موت شخص أو النوع وهذا أقل فسادا من إهلاك خيار الخلق وتعذيبهم وإكرام شرار الخلق وإهانتهم وإذا كان هذا أعظم مناقضة للحكمة والعدل من غيره وتبين بالبراهين اليقينية أن الرب لا يجوز عليه خلاف الحكمة والعدل علم بالاضطرار أن الرب سبحانه لا يسوي بين هؤلاء وهؤلاء فضلا عن أن يفضل الأشرار على الأخيار وهو سبحانه أنكر التسوية فقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وقد جعل من جوز أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة ويعذبهم في الآخرة في جهنم وأن الفراعنة يكرمهم في الآخرة والمنازع عنده لا فرق بين هذا وهذا بالنسبة الى الرب وإلى ارادته وحكمته وعلمه بل انما علم وقوع أحدهما بمجرد الخبر لا لامتناع أحدهما ووجوب الآخر والخبر إنما هو خبر الانبياء وذلك موقوف على العلم بصدقهم وهو يستلزم صدقهم وعلى أصله يمتنع العلم بصدقهم فانه يجوز أن يسوي الله بين الصادق والكاذب على أصله اذ كان يجوز عليه عنده كل مقدور وعنده لا يجوز أن يفعل فعلا لحكمة فلا يجوز على اصله أن يخلق الله آية ليدل به على صدقهم وإذا قال تجوبز ذلك يقتضى أنه لا يقدر على خلق ما به يبين صدق الصادق فلذلك منعت من ذلك لأنه يقضي الى تعجيزه قيل له انما يفضي الى عجزه اذا كان خلق دليل الصدق ممكنا وعلى أصلك لا يمكن إقامة الدليل على امكانه فإن الدليل يستلزم المدلول ويمتنع ثبوته مع عدمه وأي شيء قدرته جاز أن يخلقه على أصلك على يد الكاذب وأنت لا تنزهه عن فعل ممكن وإذا قلت أنزهه عن فعل ممكن يستلزم عجزه كان هذا تناقضا فإن فعل الممكن لا يستلزم العجز بل امتناع الممكن يستلزم العجز وبيان ذلك أن يقال ما خلقه على يد الصادق هو قادر على أن يخلقه على يد الكاذب أم لا فان قلت ليس بقادر فقد أثبت عجزه وان قلت هو قادر على ذلك فالمقدور عندك لا ينزه عن شيء منه وإن قلت هذا المقدور أنزهه عنه لئلا يلزم عجزه كان حقيقة قولك أثبت عجزه لا نفي عجزه فجعلته عاجزا لئلا تجعله عاجزا فجمعت بين النقيضين بين اثبات العجز ونفيه وإنما لزمه هذا لأنه لا ينزه الرب عن فعل مقدور فاستوت المقدورات كلها في الجواز عليه عنده ولم يحكم بثبوت مقدور إلا بالعادة او الخبر والعادة يجوز انتقاضها عنده والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر ولا طريق له الى ذلك فتبين أن كل من لم ينزه الرب عن السوء والسفه ويصفه بالحكمة والعدل لم يمكنه أن يعلم نبوة نبي ولا المعاد ولا صدق الرب في شيء من الإخبار فهذه طريقة من يجعل وجه دلالة المعجز على صدق الانبياء لئلا يلزم العجز وأما الطريق الثانية وهي أجود وهي التي اختارها أبو المعالي وأمثاله فهو أن دلالة المعجز على التصديق معلومة بالاضطرار وهذه طريقة صحيحة لمن اعتقد أن يفعل لحكمة وأما إذا قيل انه لا يفعل لحكمة انتفى العلم الاضطراري والامثلة التي يذكرونها كالملك الذي جعل آية لرسوله أمرا خارجا عن عادته انما دلت للعلم بأن الملك يفعل شيئا لشيء فإذا نفوا هذا بطلت الدلالة وكذلك دليل القدرة هو دليل صحيح لكن مع إثبات الحكمة فإنه سبحانه وتعالى قادر على أن يميز بين الصادق والكاذب اذ كان قادرا على أن يهدي عباده الى ما هو أدق من هذا فهداهم الى أسهل لكن هذا يستلزم اثبات حكمته ورحمته فمن لم يثبت له حكمة ورحمة امتنع عليه العلم بشيء من أفعاله الغائبة وأيضا فآيات الانبياء تصديق بالفعل فهي تدل اذا علم أن من صدقه الرب فهو صادق وذلك يتضمن تنزيهه عن الكذب وعلى أصلهم لا يعلم ذلك فإن ما يخلقه من الحروف والأصوات عندهم هو مخلوق من المخلوقات فيجوز أن يتكلم كلاما يدل على شيء وقد أراد به شيئا آخر فإن هذا من باب المفعولات عندهم والكلام النفسي لا سبيل لأحد الى العلم به فعلى اصلهم يجوز الكذب في الكلام المخلوق العربي وهو الذي يستدل به الناس فلا يبقى طريق الى العلم بأنه صادق فيما يخلقه من الكلام

ج8.النبوات لابن تيمية

 ج8.النبوات لابن تيمية

فصل

والنوع الثاني ما يدل بقصد الدال به كالكلام وكالعقد باليد والاشارة بها أو بالعين أو الحاجب أو غير ذلك من الأعضاء وقد يسمى ذلك رمزا ووحيا وكذلك الخط خط الكتابة بخلاف الاستدلال بآثار خطى الانسان فإن هذا من النوع الاول وكذلك القيافة وهي من النوع الاول وهو الاستدلال بالشبه على النسب وكذلك القائف قد يعرف بالأثر من هو الواطئ وأين ذهب ومن هذا النوع الاميال التي جعلت علامات على حدود الحرم والاميال تجعل في الطرقات فإنه قصد بها الدلالة على الطريق أي قصد الناس بها ذلك وهذا النوع قسمان منه ما يكون بالاتفاق والمواطأة بين اثنين فصاعدا كما يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله اليه مثل وضع خنصره في خنصره ومثل وضع يده على ترقوته كما روي أن النبي ﷺ جعل ذلك علامة مع بعض الناس وكما يجعل الملوك وغيرهم لهم علامات عند بعض الناس من جاء بها عرفوا أنه مرسل من جهته ومن هذا الباب شعائر الناس في الحرب كل طائفة يعرف أصحابها بشعارها ولهذا قال الفقهاء ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به كما كان للمهاجرين شعار وللانصار شعار ومن هذا الباب الأعلام والرايات للمقدمين فان الراية ترى فيعلم صاحبها وكذلك العلم يعلم فيعلم صاحبه وقد تميز راية عن راية لما يختص به صاحبها ويسمى ذلك رنكا وقد يكون ذلك اسم الشخص وقد يكون غير ذلك لكن قد اتفق مع غيره على أن هذا علامة وآية له فمتى رؤي استدل به على أنه هو المضاف اليه ذلك العلم ويجعل هذا على الدور والثياب والدواب ومنه الوسم الذي تعلم به إبل الصدقة وإبل الجزية فإن الوسم علامة مقصودة للواسم وأما السيما فهي علامة بنفسها لم يقصدها مثل سيما المؤمنين وسيما المنافقين قال تعالى في المؤمنين سيماهم في وجوههم من أثر السجود وقال في المنافقين فلعرفتهم بسيماهم وقال عتل بعد ذلك زنيم قيل له زنمة من الشر يعرف بها ومنه سيما المؤمنين يوم القيامة التي بها يعرفهم نبيهم وهو أنهم غر محجلين من آثار الوضوء فهذه علامة وآية لكنها من النوع الاول لم يقصد المسلمون أن يتوضئوا ليعرفوا بالوضوء لكن من اللوازم لهم الوضوء للصلاة وقد جعل الله أثر ذلك نورا في وجوههم وأيديهم وليس هذا لغيرهم فإن هذا الوضوء لم يكن لغيرهم والحديث الذي يروى هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي ضعيف بخلاف الصلاة في المواقيت الخمس فإن الانبياء كانوا يصلون في هذه المواقيت كما قال هذا وقتك ووقت الانبياء قبلك والوسم والسيما من الوسم متفقان في الاشتقاق الاوسط فان أصل سيما سوما فلما سكنت الواو وانكسر ما قبلها قلبت ياء مثل ميقات وميعاد ونحو ذلك والاسم أيضا من هذا الباب وهو علم على المسمى ودليل عليه وآيه عليه وهذا المعنى ظاهر فيه فلذلك قال الكوفيون انه مشتق من الوسم والسمة وهي العلامة وقال البصريون بل هو مشتق من السمو فإنه يقال في تصغيره سمي لا وسيم وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصريفه سميت ولا وسمت وكلا القولين حق لكن قول البصريين أتم فإنه مشتق منه على قولهم في الاشتقاق الاصغر وهو اتفاق اللفظين في الحروف وتأليفها وعلى قول الكوفيين هو مشتق منه من الاشتقاق الاوسط وهو اتفاق اللفظين في الحروف لا في ترتيبها كما قلنا في الوسم والسيما والسمو هو العلو والسامي هو العالي والعلو مستلزم للظهور كما تقدم فالعالي ظاهر والظاهر عال فكان الاسم بعلوه يظهر فيدل على المسمى لأنه يظهر باللسان والخط ويظهر للسمع المسمى فيعرف بالقلب وقد تقدم أنهم يسمون الجبال أعلاما لما فيها من الظهور ودلالة الاسم على مسماه دلالة قصدية فان المسمى يسمى بالاسم ليعرف به المسمى وليدل عليه يقصد به الدلالة على مجرد نفسه كأسماء الأعلام للأشخاص وتارة يقصد به الدلالة على ما في اللفظ من المعنى كالأسماء المشتقة مثل العالم والحي والقادر ومن هذا الباب تسمية المعبودين آلهة سموها بما لا تستحقه كما يسمى الجاهل عالما والعاجز قادرا والكذاب نبيا فلهذا قال تعالى ان هي إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان والنوع الثاني من هذه الدلالة القصدية أن يقصد الدال الدلالة من غير مواطأة مع المستدلين على أنه دليل لكن هم يعلمون أنه قصد الدلالة لعلمهم بأحواله مثل ما يرسل الرجل شيئا من ملابسه المختص به مع شخص فيعلمون أنه أرسلها علامة على أنه أرسله قال سعيد بن جبير عن ابن عباس ان في ذلك لآية للمؤمنين قال العلامة تكون بين الرجل وأهله رواه ابن المنذر حدثنا موسى بن هارون حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا أبو اسامة حدثني سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان في ذلك لآية قال علامة ألم تر إلى الرجل إذا أراد أن يرسل إلى أهله في حاجة أرسل بخاتمه أو ثبوته فعرفوا أنه حق فتارة يرسل خاتمه معه فيعلمون أنه أرسله ليعلموا أنه أرسله إذ كانوا قد علموا أن الخاتم معه وأنه ليس في إرساله مع ذلك الشخص الذي لا يعرفونه مقصود له إلا أن يكون علامة على أنه أرسله اليهم فيصدقونه فيما أخبر عنه وتارة يرسل معه عمامته أو نعليه وقد علموا أنه لا يخلع عمامته ويبعثها مع ذلك الشخص إلا لتكون علامة على صدقه كما فعل النبي ﷺ في غزاة الفتح لما كانت راية الخزرج مع سعد بن عبادة وكان فيه حدة وقال لا قريش بعد اليوم اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة قيل للنبي ﷺ إنه يخاف منه أن يضع السيف في أهل مكة فقال قولوا له يعطى الراية لابنه قيس فقيل انه لا يقبل منه فقال هذه عمامتي قولوا له قد أمر رسول الله ﷺ بذلك فلما رأى عمامته مع من جاء بها علم أنه ليس له في إعطائه عمامته مقصود إلا أن تكون علامة ولم يكن قبل ذلك قد واطأه على ذلك وكذلك لما أعطى أبا هريرة نعليه ليخرج فيبشر الناس بما ذكره له فإنهم إذا أرادوا معه نعليه علموا أنه لم يعطه النعلين إلا علامة وكذلك قد يكون بين الشخص وبين غيره سر لم يطلع عليه المرسل فيقول له اعطني علامة فيقول قل له بعلامة ما تكلمت أنت وهو في كذا وكذا أو ما فعلت أنت وهو كذا وكذا فيعلم المرسل اليه أن المرسل هو أعلم هذا الرسول بهذا الأمر اذ كان غيره لم يعلمه ويعلم أنه ليس له في إعلامه به مقصود إلا أن يكون علامة له على تصديقه ثم أكثر هذه الآيات التي هي علامات للناس يرسلونها مع من يرسلونه ليعرف صدقه هي قطعية عند المستدل بها المرسل اليه من الأهل والاصدقاء والوكلاء والنواب وغيرهم يأتيهم الرجل بعلامة وهي مستدلة على حيهم فيعلمون قطعا أن هذا جاء من عنده ويعلمون قطعا أنه لم يرسله بتلك العلامة الا ليعلموا صدقه لا يخطر لسعد بن عبادة حين رأى عمامة النبي ﷺ معهم أنهم أخذوها بغير قصده بأن تكون سقطت منه ونحو ذلك بل قد علم أنها كانت على رأسه وهو راكب في الجيش وقد أرسلها مع هذا وكذلك خاتم الشخص الذي يعلمون أنه لا ينزع خاتمه من يده ويعطيها لغيره ليعبث بها عنه وهو لا يختم بها شيئا إلا لذلك وقد يقع في مثل ذلك احتمالات فيستعمل المستدلون التقسيم فإن الاستدلال مداره على أنه أرسله بالعلامة وأنه إنما أرسله بها ليبين صدقه فقد يعرض في المقدمة الاولى أنه أخذها بغير اختياره أو أن الخاتم سقط منه أو ان كان مسافرا أنه قتل أو مات فقد يقع مثل ذلك وقد يؤخذ خاتم الرجل بغير أمره ويختم به كتابه كما حكى أن مروان فعل مثل ذلك بعثمان والمقدمة الثانية أنه قد يرسله بالخاتم ليختم به شيئا أو ليصلحه ونحو ذلك فإذا عرض مثل هذا الاحتمال وقوى توقفوا وإن عرفوا انتفاء ذلك مثل أن يكون قد ذهب من عندهم قريبا وليس له ما يختم به ونحو ذلك قطعوا بأنه أرسله علامة ثم بعد هذا قد يعلمون أنه أرسله لكن قد يكذب عليه ولكن العهدة في هذا على المرسل فإن ارسال العلامة هو إعلام منه لهم بأني أرسلته اليكم فهذا الفعل هو مثل هذا القول يجري مجرى إعلامهم وإخبارهم بأنه أرسله وتصديقه في قوله هو أرسلني والإخبار تارة يكون بالقول وتارة يكون بالعمل كما يعلم الرجل غيره بالاشارة بيده ورأسه وعينه وغير ذلك وان لم يتقدم بينهما مواضعة لكن يعلم قصده ضرورة مثل أن يسأله عن شيء هل كان فيرفع رأسه أو يخفضه أو يشير بيده أو يكون قائما فيشير اليه اجلس أو قاعدا مطلوبا فيشير اليه أن اهرب فقد جاء عدوك أو نحو ذلك من الاشارات التي هي أعمال بالأعضاء وهي تدل دلالة ضرورية تعلم من قصد الدال كما يدل القول وقد تكون أقوى من دلالة القول لكن دلالة القول أعم وأوسع فإنه يدل على الأمور الغائبة وعلى الأمور المعضلة وهذه الأدلة العيانية هي أقوى من وجه ولكن ليس فيها من السعة للمعاني الكثيرة ما في الاقوال

فصل

وخاصة الدليل أن يكون مستلزما للمدلول فكل ما استلزم شيئا كان دليلا عليه ولا يكون دليلا إلا إذا كان مستلزما له ثم دلاله الدليل تعلم كما يعلم لزوم اللازم للملزوم وهذا لا بد أن يعلم بالضرورة أو بدليل ينتهي الى الضرورة وعلى هذا فآيات الأنبياء هي أدلة صدقهم وهي ما يستلزم صدقهم ويمتنع وجوده بدون صدقهم فلا يمكن أن يكون ما يدل على النبوة موجودا بدون النبوة ثم كونه مستلزما للنبوة ودليلا عليها يعلم بالضرورة أو بما ينتهي إلى الضرورة فآيات الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا تحد بحدود يدخل فيها غير آياتهم كحد بعضهم كالمعتزلة وغيرهم بأنها خرق العادة ولم يعرف مسمى هذه العبارة بل ظن أن خوارق السحرة والكهان والصالحين خرق للعادة فكذبها وحد بعضهم بأنها الخارق للعادة إذا لم يعارضه أحد وجعل هذا فصلا احترز به عن تلك الامور فقال المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل مع عدم المعارضة وجوز أن يأتي غير الانبياء بمثل ما أتوا به سواء مع المعارضة وجعل ما يأتي به الساحر والكاهن معجزات مع عدم المعارضة وحقيقة المعجز هذا ما لم يعارض ولا حاجة إلى كونه خارقا للعادة بل الامور المعتادة إذا لم تعارض كانت آية وهذا باطل قطعا ثم مسيلمة والأسود العنسي وغيرهما لم يعارضوا ثم يقال ما يعني بعدم المعارضة في ذلك المكان والزمان فالسحرة والكهان لا يعارضون والعنسي ومسيلمة لم يعارضا في مكانهم ووقت اغرائهم وإن قال لا يعارض البتة فمن أين يعلم هذا العدم فإن قيل فما آيات الانبياء قيل هي آيات الانبياء التي تعلم أنها مختصة بالانبياء وأنها مستلزمة لصدقهم ولا تكون إلا مع صدقهم وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة خارجة عن قدرة الانس والجن ولا يمكن أحدا أن يعارضها لكن كونها خارقة للعادة ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها ليس هو حدا مطابقا لها والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريا كانشقاق القمر وجعل العصا حية وخروج الناقة فمجرد العلم بهذه الآيات يوجب علما ضروريا بأن الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة وأنه لا يمكن معارضتها فهذا من جملة صفاتها لا أن هذا وحده كاف فيها وهذا اذا قال من قال أن فلانا أرسلني اليكم فإنه يأتي بما يعلم أنه علامة والعلامة والدليل والآية حدها أنها تدل على المطلوب وآيات الانبياء تدل على صدقهم وهذا لا يكون الا مع كونها مستلزمة لصدقهم فيمتنع أن تكون معتادة لغيرهم ويمتنع أن يأتي من يعارضهم بمثلها ولا يمتنع أن يأتي نبي آخر بمثلها ولا أن يأتي من يصدقهم بمثلها فان تصديقه لهم يتضمن صدقهم فلم يأت إلا مع صدقهم وقد تكون الآيات تدل على جنس الصدق وهو صدق صاحبها فيلزم صدقه اذا قال أنا نبي ولكن يمتنع أن يكون لكاذب فهذا ونحوه مما تنكشف به حقيقة هذا الباب وهو من أهم الأمور وإذا فسر خرق العادة بأنها خرق لعادات غير الانبياء أي لا يكون لغير جنسهم وجنس من صدقهم وفسر عدم المعارضة بأنه لا يقدر أن يأتي بها من ليس بنبي أو متبع لنبي كان المعنى واحدا واتحدت التفاسير الثلاثة

فصل

والله سبحانه دل عباده بالدلالات العيانية المشهودة والدلالات المسموعة وهي كلامه لكن عامتهم تعذر عليهم أن يسمعوا كلامه منه فأرسل اليهم بكلامه رسلا وأنزل اليهم كتبا والمخلوق اذا قصد إعلام من يتعذر أن يسمع منه أرسل اليه رسلا وكتب اليه كتبا كما يفعل الناس ولاة الامور وغيرهم يرسلون الى من بعد عنهم رسولا ويكتبون اليه كتبا ثم انه سبحانه جعل مع الرسل آيات هن علامات وبراهين هي أفعال يفعلها مع الرسل يخصهم بما لا يوجد لغيرهم فيعلم العباد لاختصاصهم بها أن ذلك إعلام منه للعباد وإخبار لهم أن هؤلاء رسلي كما يعلمهم بكلامه المسموع منه ومن رسوله ولهذا قد يعلم برسالة رسول بإخبار رسول أخبر عنه وقد يخبر عن ارساله بكلامه لمن سمع كلامه منه كما أخبر موسى وغيره بالوحي الذي يوحيه اليهم فآيات الانبياء هي علامات وبراهين من الله تتضمن إعلام الله لعباده وإخباره فالدليل وهو الآية والعلامة لا يدل إلا إذا كان مختصا بالمدلول عليه مستلزما له إما مساويا له وأما أخص منه لا يكون أعم منه غير مستلزم له فلا يتصور أن يوجد الدليل بدون المدلول عليه فالآيات التي أعلم الله بها رسالة رسله وصدقهم لا بد أن تكون مختصة بهم مستلزمة لصدقهم فان الإعلام والإخبار بأن هذا رسول وتصديقه في قوله إن الله أرسلني لا يتصور أن يوجد لغير رسول والآيات التي جعلها الله علامات هي أعلام بالفعل الذي قد يكون اقوى من القول فلا يتصور أن تكون آيات الرسول إلا دالة على صدقهم ومدلولها أنهم صادقون لا يجوز أن توجد بدون صدق الرسل البتة وكون الرب أراد بها إعلام عباده بصدقهم وصدقهم بها في إخبارهم أنه أرسلهم وكونها آية وعلامة على صدقهم أمر يعلم كما تعلم دلالة سائر الادلة كما يعلم من الرجل أصدقاؤه ووكلاؤه أنه أرسل هذا بهذه العلامات فتارة يعلم ذلك بالضرورة بعد تصور الامر وتارة يحتاج الى نظر هل هذه العلامة منه أو من غيره وهل هو أرسله بها أو غيره وهل قصد بها الإعلام والتصديق أم لا وهل يعلم من حال الذاكر أنه أرسله أنه صادق فقد يرسل من يعلمون هم صدقه وأنه لا يكذب فيعلمون صدقه بمجرد قوله هو أرسلني من غير آية ولا علامة ولهذا إذا قال من صدقه إنه رأى رؤيا صدقه وجزم بصدقه من قد خبر صدقه والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وكذلك لو أخبر بغير ذلك كما أخبر عمران بن حصين أن الملائكة تسلم عليه فلم يشك الذين أخبرهم في صدقه من غير آية فمن كان يعلم صدق موسى والمسيح ومحمد وغيرهم وأنهم لا يكذبون في أخف الامور فكيف بالكذب على الله إذا أخبرهم أحدهم بما جاءه من الوحي والرسالة وما غاب من الملائكة فإنه قد يجزم بصدقه من غير آية لا سيما ان كان ما يقوله لهم مما يؤيد صدقه ولهذا لم يكن من شرط الايمان بالانبياء وجود الآيات بل قد يعلم صدقهم بدون ذلك كما قد بين في موضع آخر وتارة يحتاجون إلى العلامة وتارة يعلمون كذبه بأن يذكر عن صاحبهم ما يعلمون هم خلافه ويصفه بما علموا نقيضه وقد يظهر لهم من قصده أنه كذاب ملبس طالب أغراض له إما مال يعطونه أو ولاية يولونه أو امرأة يزوجونه بها أو غير ذلك من أغراض النفوس فيسألونه عن مقصوده فإذا عرفوا مقصوده فقد يعلمون كذبه أو صدقه ومثل هذا كثير في عادات الناس فكثيرا ما يجيء الرجل بما يزعم أنه علامة وتكون مشتركة فيقال له ما تريد فيذكر مراده فيعلمون كذبه فدلائل الصدق والكذب لا تنحصر كدلائل الحب والبغض هي كثيرة جدا وهذا يعرفه من جرب عادات الناس

فصل

فالآيات التي تكون آيات للانبياء هي دليل وبرهان والله تعالى سماها برهانا في قوله لموسى فذانك برهانان من ربك وهي العصا واليد وسماها برهانا وآيات في مواضع كثيرة من القرآن فحدها حد الدليل والبرهان وهي أن تكون مستلزمة لصدق النبي فلا يتصور أن توجد مع انتفاء صدق من أخبر أن الله أرسله فليس له إلا حالان إما أن يكون الله أرسله فيكون صادقا أو لا يكون أرسله فلا يكون صادقا فآيات الصدق لا توجد إلا مع أحد النقيضين وهو الصدق لا توجد قط مع الآخر وهو انتفاء الصدق كسائر الادلة التي هي البراهين والآيات والعلامة فإنها لا توجد إلا مع تحقق المدلول عليه لا توجد مع عدمه قط اذ كانت مستلزمة له يلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه فلا يوجد الدليل مع عدم المدلول عليه فلا توجد آياتهم مع عدم صدقهم فيجب أن يتصور هذا الموضع فإنه حق معلوم بعد تصوره لكل العقلاء بالضرورة فلا يمكن أحدا كذب النبي أن يأتي بمثلها فإنه لو أتى بمثلها مع تكذيب النبي لكانت قد وجدت مع قوله اني صادق ومع قول هذا المكذب إنه كاذب فلم تختص بصدقه ولم تستلزمه فلا يلزم إذا قال إني صادق أن يكون صادقا وهذا قد أتى بمثل ما أتى به وقال انه كاذب ولا يكون إعلاما من الله لعباده وإخبارا لهم بأني أرسلته ولا تصديقا له كما لو قال رجلا إن فلانا أرسلني وجاء بعلامة ذكر أنه خصه بها مثل أن يقول العلامة أنه أعطاني خاتمه فيقول المكذب وأنا أيضا أعطاني خاتمه الأخرى لاصلحها له أو لأختم بها كذا وأنت إنما أعطاك خاتمه لتصلحها أو أن تختم بها فإذا أتى المكذب له بمثل ما أتى به امتنع كونها آية ولكن لو كان قد جاء بالخاتم غيره لأمر آخر أرسله له لم يمتنع ذلك بل قد جرت عادته معهم بأنه من ارسله يرسل معه خاتمه فقد صار ارسال الخاتم عادة له يدل على صدق من أرسله فهو يميز رسله بالخاتم لا يخص بها واحدا منهم وهي عادة منه لرسله ليست لغيرهم لا عادة ولا غير عادة فهذا شأن الآيات والعلامات التي يقصد الدال بها أن يدل بها

فصل

والله تعالى سماها آيات وبراهين وهو اسم مطابق لمسماه مطرد لا ينتقض فلا تكون قط إلا آيات لهم وبراهين وأما تسميتها بخرق العادة فللناس في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك حد لها مطرد منعكس فكل خرق هو معجزة للنبي فهو خرق عادة والثاني أن خرق العادة شرط فيها وليس بحد لها فيجب أن تكون خارقة لعادة ولكن ليس كل خارق للعادة يكون آية لنبي كأشراط الساعة بل أن يقع على وجه مخصوص مثل دعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها مع عجز الناس عن معارضته والقول الثالث أن كونها خارقة للعادة ليس بحد ولا شرط قال القاضي أبو بكر في مناظرته في الكرامات ويقال لهم أيضا إن من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقة للعادة ويقول إنما تكون آية اذا كانت من فعل الله مع التحدي بمثلها ودعوى النبوة فدلالتها على وجه لا يمكن أن يشترك في ادعائه الصادق والكاذب فإذا ظهرت على هذا الوجه كانت آية لمن فعلت على يده قال المجيبون بهذا ولهذا لم تكن أشراط الساعة آية لاحد وان خرقت العادة اذ لم يكن معها دعوى نبوة ولأن موت زيد عند قول الرسول آيتي أن يميت الله زيدا عند دعائي موته فإذا مات عند دعوته صار ذلك آية له وإن كان فعل الموت في الانسان وغيره من الحيوان معتادا قال ان قالوا لو كان كذلك لكان من قال آيتي أن تطلع الشمس وتغرب ويأتي الليل والنهار والضياء والظلام وفعل ذلك مع دعواه الرسالة كان آية له وإن لم يكن المفعول من ذلك خارقا للعادة فلما لم يكن كذلك وإن كان واقعا من فعل الله مع دعوى النبوة لكونه غير خارق للعادة بطل ما قلتموه يقال لهم قد أجبنا عن هذا حين قلنا ويكون الواقع من فعل الله مع دعوى النبوة مما لا يشترك فيه الصادق والكاذب ويستوي مع ظهوره دعوى المحق والمبطل وطلوع الشمس وغروبها ولو قال النبي آيتي أن يظلنا السحاب الساعة وتزلزل الارض وتحدث الامطار بدعوى فحدث ذلك لكان آية له وإن كان مثل ذلك قد يحدث في العصر ويشاهد فإذا قال المتنبي انني معارضه وآيتي في كوني نبيا ظهور مثل ذلك منع منه ولم يحدث قلت هذا الذي ذكروه هو أيضا خرق للعادة فإن ظهور مثل ذلك على هذا الوجه مما لم تجر به العادة وهو نفسه القاضي أبو بكر في هذا الكتاب كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنيرنجيات قد قال قبل هذا باب القول في معنى العادة وانخراقها والعادة التي اذا انخرقت دلت على صدق الرسل والاعتياد للأمر وتفصيل ذلك وتنزيله واعلموا رحمكم الله أن الكل من سائر الامم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقا للعادة وإذا كان ذلك واجبا وجب معرفة هذه العادة ومعرفة انخرافها فقد حكي هنا الإجماع وهناك صرح بالاختلاف وقوى ذلك القول وسبب ذلك اضطرابهم في معنى العادة وانخراقها فان كل قوم يفهمون غير ما يفهمه الآخرون والله تعالى انما سماها آيات وهذا القول الذي ذكره وقواه وهو لا يشترط فيها أن تكون خارقة للعادة هو حقيقة قول القاضي وأمثاله من المتكلمين الأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله فإن المعجزات عندهم لا تختص بجنس من الأجناس المقدورات بل خاصتها أن النبي يحتج بها ويتحدى بمثلها فلا يمكن معارضته فاشترطوا لها وصفين أن تكون مقترنة بدعوى النبوة وجعلوا المدلول جزءا من الدليل وأنها لا تعارض وبالاول فرقوا بينها وبين الكرامات وبه وبالثاني فرقوا بينها وبين السحر والكهانة وصرحوا بأن جميع خوارق السحرة والكهان يجوز أن تكون معجزة لنبي لكن إذا كانت معجزة لم تمكن معارضتها فلو ادعى ساحر أو كاهن النبوة لكان الله يعجزه عن تلك الخوارق التي علم أن غيره من السحرة والكهان يفعل مثلها وليس بنبي وما يأتي به الانبياء من المعجزات جوزوا أن يأتي بمثله الساحر والكاهن إلا ما منع منه السمع للإجماع على أن الساحر لا يقلب العصا حية وهذا الفرق ليس يختص به أحد النوعين ولا ضابط له وصرحوا بأنه لا يستثنى من الخوارق إلا ما انعقد عليه الإجماع وصرحوا بأن العجائب الطبيعية مثل جذب حجر المغناطيس الحديد يجوز أن يكون معجزة لكن بشرط أن لا يعارض وكذلك الطلاسم وكذلك الامور المعتادة يجوز أن تكون معجزة بشرط أن يمنع غيره منها فتكون المعجزة منع المعتاد فالخاصة عندهم فيها أنها لا تعارض وأنها تقترن بدعوى النبوة وقد يشترطون أن تكون خارقة للعادة لكن يكتفون بمنع المعارض فهو وحده خرق للعادة فلا يشترطون هذا وهذا وقد اشترط القاضي أبو بكر أن يكون مما يختص الرب بالقدرة عليه ولا حقيقة له فإن جميع الحوادث كذلك عندهم وكل ما خرج عن محل قدرة العبد فالرب عندهم مختص بفعله كخوارق السحرة والكهان وحقيقة الامر أنه لا فرق عندهم بين المعجزات والكرامات والسحر والكهانة لكن هذه إذا لم تقترن بدعوى النبوة لم تكن آية وإذا اقترنت بها كانت آية بشرط أن لا تعارض ثم انه لما أثبت النبوة قال انه يجوز على النبي فعل كل شيء من الكبائر الا أن يمنع من ذلك سمع كما قال كل ما كان معجزة للانبياء يجوز أن يأتي به الساحر إلا أن يمنع منه سمع اذ كان في نفس الامر لا فرق بين فعل وفعل بل يجوز من الرب كل شيء فيجوز أن يبعث كل أحد ولا يقيم على نبوته دليلا هذا حقيقة قولهم انه يجوز أن يبعث كل احد وإنه اذا بعثه لا يقيم دليلا على نبوته بل يلزم العباد بتصديقه بلا دليل يدلهم على صدقه فإن غاية هذا تكليف مالا يطاق وهم يجوزونه وهذا الذي قالوه باطل من وجوه متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع منها أنهم جعلوا المدلول عليه وهو اخبارالنبي بنبوته وشهودها وثبوتها جزءا من الدليل قالوا لأنها لو كانت معجزة لجنسها لم تقع الا معجزة والخوارق التي تكون أمام الساعة ليست معجزة لأحد فعلم ان الدليل هو مجموع دعوى النبوة والخارق والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن تلك من آيات الله تعالى فالخوارق التي لا يقدر عليها العباد كلها آيات الله تعالى وهي دالة على ما تظهر دلالتها عليه تارة تكون تخويفا كما قال النبي ﷺ ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده والتخويف يتضمن الامر بطاعته والنهي عن معصيته وأشراط الساعة آيات على قربها وعلى جزاء الأعمال وهو يتضمن الامر بالطاعة والنهي عن المعصية والثاني أن يقال هي آيات على صدق الانبياء فإنهم أخبروا بها وهي آية على ما اخبروا به وعلى صدقهم وأيضا فإن عامة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها ويقول ائتوا بمثلها والقرآن انما تحداهم لما قالوا إنه افتراه ولم يتحدهم به ابتداء وسائر المعجزات لم يتحد بها وليس فيما نقل تحد إلا بالقرآن لكن قد علم أنهم لا يأتون بمثل آيات الانبياء فهذا لازم لها لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره وايضا فمن آيات الانبياء ما كان قبل ولادتهم وقبل إنبائهم وما يكون بعد موتهم فإن الآية دليل على صدق الخبر بأنه رسول الله وهذا الدليل لا يختص لا بمكان ولا زمان ولا يكون هذا الدليل إلا من جنس لا يقدر عليه الإنس كلهم ولا الجن فلا بد أن يكون جنسه معجزا أعجز الانس والجن وأما قولهم خاصة المعجز عدم المعارضة فهذا باطل وإن كان عدم المعارضة لازما له فإن هذا العدم لا يعلم إذ يمكن أن يعارضه من ليس هناك إذا كان مما يعلم أنه معتاد مثل خوارق السحرة والكهان فإنه وإن لم يمكن أن يعارض في هذا الموضع ففي السحرة والكهان من يفعل مثلها مع أنه ليس بنبي ودليل النبوة يمتنع ثبوته بدون النبوة وإذا قالوا الدليل هو مجموع الدعوى والدليل تبين خطأهم وان القوم لم يعرفوا دلائل النبوة ولا اقاموا دليلا على نبوة الانبياء كما لم يقيموا دليلا على وجود الرب فليس في كتبهم ما يدل على الرب تعالى ولا على رسوله مع أن هذا هو المقصود من أصول الدين وايضا فمسيلمة والعنسي لم يكن عندهما من يعارضهما وأيضا فالمعارض ان اعتبروه في المدعوين وهذا مقتضى في خرق العادة وإن العادات تختلف فلكل قوم عادة قالوا فالمعتبر خرق عادة من أرسل اليهم وعلى هذا فإذا أرسل الى بني اسرائيل ففعل مالم يقدروا عليه كان آية وإن كان ذلك مما يقدر عليه العرب ويقدر عليه السحرة والكهان وصرحوا بأن السحر الذي قال الله فيه وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر يجوز أن يكون من معجزات الانبياء اذا لم يعارض وقد قال الرازي أن السمعيات لا يحتج بها لأن دلالتها مشروطة بعدم المعارض العقلي وذلك غير معلوم وكذلك يقال في معجزات هؤلاء إن خاصتها عدم المعارضة فإن اعتبروا أن أحدا من الخلق لا يعارض فهذا لا يعلم وإن اكتفوا بأن لا يعارض في ذلك المكان والزمان فكثير من الصناعات والعجائب والعلوم من هذا الباب وهم لا ينكرون هذا بل يقولون المعجز هو هذا مع دعوى النبوة وقد تبين أن الشيء في نفسه إذا لم يكن دليلا لم يصر دليلا باستدلال المستدل به بل هو في نفسه دليل وإن لم يستدل به اذ كان الدليل هو المستلزم للمدلول فدليل صدق النبي هو يدل على أنه نبي وأن الخبر بنبوته صدق وإن كان هو لا يستدل بذلك ولا يتحدى بمثلها وقد لا يخبر بنبوة نفسه ويكون له دلائل تدل على نبوته كما كانت قبل أن يولد وفي الامكنة البعيدة فتبين أن قول هؤلاء هو أنه لا يعلم ما يستدل به على نبوة الانبياء وهذا اذا انضم الى أصلهم وهو أن الرب يجوز عليه فعل كل شيء صارا شاهدين بأنه على أصلهم لا دليل على النبوة اذ كان عندهم لا فرق بين فعل من الرب وفعل وعندهم لا فرق بين جنس وجنس في اختصاصه بالانبياء به فليس في أجناس المعقولات ما يكون آية تختص بالانبياء فيستلزم نبوتهم بل ما كان لهم قد يكون عند غيرهم حتى السحرة والكهان وهم أعداؤهم وفرقوا بعدم المعارضة وهذا فرق غير معلوم وهو مجرد دعوى قالوا لو ادعى الساحر والكاهن النبوة لكان الله ينسيه الكهانة والسحر ولكان له من يعارضه لان السحر والكهانة هي معجزة عندهم وفي هذه الاقوال من الفساد عقلا وشرعا ومن المناقضة لدين الاسلام وللحق ما يطول وصفه ولا ريب أن قول من أنكر وجود هذه الخوارق أقل فسادا من هذا ولهذا يشنع عليهم ابن حزم وغيره بالشناعات العظيمة ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر فلا يجدون فرقا اذ لا فرق عندهم في نفس الامر والتحقيق أن آيات الانبياء مستلزمة للنبوة ولصدق الخبر بالنبوة فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنه رسول لا يوجد مع التكذيب بذلك ولا مع عدم ذلك البتة وليست من جنس ما يقدر عليه لا الانس ولا الجن فان ما يقدر عليه الانس والجن يفعلونه فلا يكون مختصا بالانبياء ومعنى كونها خارقة للعادة أنها لا توجد إلا للنبوة لا مرة ولا أقل ولا أكثر فالعادة هنا تثبت بمرة والقاضي أبو بكر يقول ان ما فعل مرات يسيرة لا يكون معتادا وفي كلامه في هذا الباب من الاضطراب ما يطول وصفه وهو رأس هؤلاء الذين اتبعوه كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم وما يأتي به السحرة والكهان يمتنع أن يكون آية لنبي بل هو آية على الكفر فكيف يكون آية للنبوة وهو مقدور للشياطين وآيات الانبياء لا يقدر عليها جن ولا إنس وآيات الانبياء آيات لجنسها فحيث كانت آية لله تدل على مثل ما أخبرت به الانبياء وإن شئت قلت هي آيات لله يدل بها على صدق الانبياء تارة وعلى غير ذلك تارة وما يكون للسحرة والكهان لا يكون من آيات الانبياء بل آيات الانبياء مختصة بهم وأما كرامات الاولياء فهي أيضا من آيات الانبياء فإنها إنما تكون لمن تشهد لهم بالرسالة فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوة وأيضا فإن كرامات الاولياء معتادة من الصالحين ومعجزت الانبياء فوق ذلك فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للاولياء وكذلك خلق الطير من الطين ولكن آياتهم صغار وكبار كما قال تعالى فأراه الآية الكبرى فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة وقال عن نبيه محمد لقد رأى من آيات ربه الكبرى فالآيات الكبرى مختصة بهم وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين مثل تكثير الطعام فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين لكن لم يوجد كما وجد للنبي ﷺ أنه أطعم الجيش من شيء يسير فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم لكن لا يماثلون في قدره فهم مختصون إما بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن وانشقاق القمر وقلب العصا حية وانفلاق البحر وأن يخلق من الطين كهيئة الطير وإما بقدرها وكيفيتها كنار الخليل فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت النار عليهم بردا وسلاما لكن لم تكن مثل نار ابراهيم في عظمتها كما وصفوها فهو مشارك للخليل في جنس الآية كما هو مشارك في جنس الايمان محبة الله وتوحيده ومعلوم أن الذي امتاز به الخليل من هذا لا يماثله فيه أبو مسلم وأمثاله وكذلك الطيران في الهواء فإن الجن لا تزال تحمل ناسا وتطير بهم من مكان إلى مكان كالعفريت الذي قال لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك لكن قول الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك لا يقدر عليه العفريت ومسرى النبي ﷺ الى بيت المقدس ليريه الله من آياته الكبرى أمر اختص به بخلاف من يحمل من مكان الى مكان لا ليريه الله من آياته الكبرى أمر اختص به ولا يعرج الى السماء فهؤلاء كثيرون وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هؤلاء حقيقة قولهم انه ليس للنبوة آية تختص بها كما أن حقيقة قولهم إن الله لا يقدر أن يأتي بآية تختص بها وإنه لو كان قادرا على ذلك لم يلزم أن يفعله بل ولم يفعله فهذان أمران متعلقان بالرب اذ هو عندهم لا يقدر أن يفعل شيئا لشيء والآية انما تكون آية اذا فعلها لتدل ولو قدر أنه قادر فهم يجوزون عليه فعل كل شيء فيمكن أنه لم يجعل على صدق النبي دليلا وأما الذي ذكرناه عنهم هنا فإنه يقتضي أنه لا دليل عندهم على نبوة النبي بل كل ما قدر دليلا فإنه يمكن وقوعه مع عدم النبوة فلا يكون دليلا فهم هناك حقيقة قولهم انا لا نعلم على النبوة دليلا وهنا حقيقة قولهم إنه لا دليل على النبوة ولهذا كان كلامهم في هذا الباب منتهاه التعطيل ولهذا عدل الغزالي وغيره عن طريقهم في الاستدلال بالمعجزات لكون المعجزات على أصلهم لا تدل على نبوة نبي وليس عندهم في نفس الامر معجزات وإنما يقولون المعجزات علم الصدق لانها في نفس الامر كذلك وهم صادقون في هذا لكن على اصلهم ليست دليلا على الصدق ولا دليل على الصدق فآيات الأنبياء تدل على صدقهم دلالة معلومة بالضرورة تارة وبالنظر أخرى وهم قد يقولون إنه يحصل العلم الضروري بأن الله صدقه بها وهي الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما وهي طريقة صحيحة في نفسها لكن تناقض بعض أصولهم فالقدس ليس في آيات الأنبياء لكن في الأقوال الفاسدة التي تنافض ما هو معلوم بالضرورة عقلا وما هو أصل الايمان شرعا ومن عرف تناقضهم في الاستدلال يعرف أن الآفة في فساد قولهم لا في جهة صحة الدلالة فقد يظهر بلسانه ما ليس في قلبه كالمنافقين الذين يقولون في أول سورة المنافقون نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون ولقد صدق الإمام أحمد في قوله علماء الكلام زنادقة وطريقة القرآن فيها الهدى والنور والشفاء سماها آيات وبراهين فآيات الانبياء مستلزمة لصدقهم وصدق من صدقهم وشهد لهم بالنبوة والآيات التي يبعث الله بها انبياء قد يكون مثلها لأنبياء أخر مثل إحياء الموتى فقد كان لغير واحد من الأنبياء وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الانبياء كما قد وقع لطائفة من هذه الامة ومن أتباع عيسى فإن هؤلاء يقولون نحن إنما أحيى الله الموتى على أيدينا لاتباع محمد أو المسيح فبايماننا بهم وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا فكان إحياء الموتى مستلزما لتصديقه عيسى ومحمدا لم يكن قط مع تكذيبهما فصار آية لنبوتهم وهو أيضا آية لنبوة موسى وغيره من أنبياء بني اسرائيل الذين أحيى الله الموتى على أيديهم وليس مدلول الآيات هو مجرد دعواه أن الله أرسلني وإخباره عن نفسه بذلك لأن ذلك معلوم بالحس لمن سمعه وبالتواتر لمن لم يسمعه بل صدقه في هذا الخبر وهو ثبوت نبوته فالآية مستلزمة لصدقه وثبوت نبوته ومن أخبر غيره عن إرسال الله له وأتى هذا المخبر بآية كانت أيضا آية على صدق هذا المخبر وثبوت نبوة النبي فان من أخبر عن نبوة نبي من الانبياء وأتى بآية على صدقه في خبره كانت تلك آية ودليلا على نبوة النبي وأن إخبار المخبر بنبوته صدق بل كون غيره هو المخبر الآتي بالعلامة أبلغ ولهذا كانت من أعظم آيات النبي إخبار غيره من الانبياء بنبوته فإن قال آخر إنه كذب وأتى بمثل تلك الآية بطلت الدلالة المعينة ولا يلزم من بطلان دليل معين بطلان سائر الأدلة فان الدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولو جاء من قال إن فلانا أرسلني ومعه شخص فصدقه وقال إنه أمرني أن أخبركم بأني رسوله بعلامة كيت وكيت لكان ذلك أبلغ وكل من علم صدق النبي فقد صدقه أنه أن يعلم الناس أن الله يشهد له بالنبوة ويحكم بينه وبين منازعيه بتصديقه وتكذيبهم وذلك بآياته وعلاماته يبين بها أنه مصدق للرسول وقد يصدقه بكلامه الذي قد بين أنه كلامه فكونه في نفسه آية وعلامة إذ كان لا يمكن الجن والانس أن يأتوا بمثله فهو من أعظم الآيات وبغير ذلك فالآيات كلها شهادة بالنبوة وإخبار بها وتصديق للمخبر فهي تستلزم ثبوت النبوة في نفسها وأن صاحب الآيات قد نبأه الله وأوحى اليه كما أوحي إلى غيره من الانبياء وتستلزم أيضا صدق الإخبار بأنه نبي فهو اذا قال إني نبي كان صادقا وكذلك كل من أخبر بنبوته فإنه يكون صادقا وثبوت الشيء وصدق من أخبر به متلازمان فكل حق ثابت إذا أخبر به مخبر فهو صادق وكل خبر صادق فقد تحقق مخبره فالخبر الصادق هو ومخبره متلازمان يلزم من صدق الخبر تحقق مخبره ومن تحقق الشيء صدق المخبر به بخلاف الكذب فإنه ومخبره ليسا متلازمين بل الخبر الكذب يوجد مع انتفاء مخبره والمخبر به يتحقق على صفة خلاف ما في الخبر الكاذب فلهذا كانت الآيات والعلامات والدلائل ونحو هذا كما تدل على المدلول وأنه حق ثابت فهي أيضا تدل على صدق من أخبر به كائنا من كان فمن قال اني ابن فلان وقامت بينة بنسبة فهي تثبت صدقه وصدق كل من قال هو ابن فلان وكذلك البينة التي تشهد برؤية الهلال هي تشهد بصدق كل من أخبر بطلوعه وكذلك كل دليل دل على مدلول فهو دليل على صدق كل من أخبر بذلك المدلول عليه وكذلك اذا قال الصادق ان الله أرسلني فهذا خبر منه عن ارسال الله فالآية الدالة على صدقه تدل على صدق كل من قال ان الله أرسله فالآيات الدالة على صدق محمد اذا قال ما أمره الله به في قوله قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا هي دالة على صدق كل من قال أشهد أن محمدا رسول الله فجميع آياته وآيات الانبياء الذين أخبروا بنبوته كموسى والمسيح وأنبياء بني اسرائيل وغيرهم كلها آيات ومعجزات تبين صدق كل واحد من المؤمنين به الذين يقول أحدهم أشهد أن محمدا رسول الله سواء قالها مجردة أو قالها في صلاته أو عقب طهارته أو متى ما قالها ليست آيات النبوة دالة على أنه وحده هو الصادق في قوله اني رسول الله اليكم جميعا بل الآيات تصدقه وتصدق كل من شهد له بالرسالة وهكذا سائر الادلة الدالة على مدلول فإنها تدل على صدق من أخبر بذلك المدلول عليه من جميع الخلق وقد عرف أن الدليل لا بد أن يكون مختصا بالمدلول عليه مستلزما له فآيات الانبياء وسائر أنواع الآيات والأدلة لا تكون مع نقيض المدلول عليه أي مع عدمه فإنها اذا كانت مع وجوده وعدمه لم تكن دالة على وجوده ولا على عدمه ولم يكن الاستدلال بها على وجوه أولى به من الاستدلال على عدمه كالامور المعتادة التي توجد مع الصادق والكاذب كطلوع الشمس وغروبها فإن هذه لا تدل على صدق أحد ولا كذبه وكذلك خوارق السحرة والكهان هي معتادة مع صدق أحدهم ومع كذبه فلا تدل على الصدق اذ كان كذبهم أكثر من صدقهم كالذين يخبرون بكلمة صدق وعشر كذب قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف إذا كان مع الصدق مائة كذبة كما قال النبي ﷺ لما سئل عن الكهان كما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت سأل ناس رسول الله ﷺ عن الكهان فقال لهم رسول الله ﷺ ليسوا بشيء قالوا يا رسول الله فانهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله ﷺ تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة فيلزم من هذا أن آيات الانبياء لا يكون مثلها لمن يكذبهم وهو الذي يخبر بكذبهم والناس فيهم رجلان إما مصدق وإما مكذب فالمكذب لهم يمتنع أن يأتي بمثل آياتهم ومتى كذب مكذب لمدعي النبوة وأتى بمثل آيته سواء دل على أن تلك ليست من آيات الانبياء ولا تدل على صدق النبي لكن لا يلزم أن تدل على كذبه فإن الدليل المعين إذا بطل لا يستلزم انتفاء المدلول عليه فقد تكون له آيات أخر تدل على نبوته وصدق الصادق وكذب الكاذب يعرف بوجوه كثيرة جدا وكذلك النبوة لها آثار مستلزمة لها بدون إخبار النبي بانه نبي وكذب المتنبي الذي يزين له الشيطان أن يقول إنه نبي له آثار تستلزم انتفاء النبوة وأنه كاذب إما عمدا وإما أن الشيطان قد لبس عليه فإن الخبر عند كثير من الناس ينقسم الى صدق وكذب فالمطابق هو الصدق والمخالف هو الكذب وأثبت بعضهم واسطة بين الصدق والكذب وهو مالم يتعمده الانسان قال فهذا ليس بصدق لأنه غير مطابق وليس بكذب لأن صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ ولس كل من أخطأ يقال انه كاذب كالناسي في الصلاة إذا قال صليت أربعا ولم يصل إلا ثلاثا كما قال النبي ﷺ لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فقال لم أنس ولم تقصر فقال بلى قد نسيت فقال أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم والذي يدل عليه القرآن أن كل من تكلم بلا علم فأخطأ فهو كاذب كالذين حرموا وحللوا وأوجبوا وان كان الشيطان قد زين لهم ذلك وأوهمهم أنه حق ولهذا قال قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وهي تتنزل على من يظن أنه يصدقها قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون وقال تعالى وقال الشيطان لما قضى الامر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وكذلك الذي تدل عليه الشرع أن كل من أخبر بخبر ليس له أن يخبر به وهو غير مطابق فإنه يسمى كاذبا وإن كان لم يتعمد الكذب كقول النبي ﷺ لما قيل له ان أبا السنابل قال ما أنت بناكحة حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر فقال كذب من قالها إن له لأجرين أنه جاهد مجاهد ولما قال سعد بن عبادة في يوم الفتح اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وحكاه أبو سفيان لرسول الله ﷺ قال كذب سعد ولكن هذا يوم تعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة وكذلك قال عبادة بن الصامت لما قيل له إن أبا محمد يقول الوتر واجب فقال كذب أبو محمد وكذلك ابن عباس لما قيل له إن نوفا يقول إن موسى بني اسرائيل ليس هو موسى الخضر فقال كذب نوف وأيضا من أخبر الناس خبرا طلب أن يصدقوه فيه وقد نهوا عن تصديقه الا ببينة فإنه أيضا كاذب كما قال تعالى في القرآن لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون وقال في القاذفين فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فان الله غفور رحيم وكذلك أن القاذف وإن كان قد رأى الفاحشة بعينه لكنه إذا أخبر بها الناس فهو يطلب منهم أن يصدقوه بمجرد خبره وليس لهم ذلك بل ليس لهم أن يصدقوه حتى يأتي بأربعة شهداء وهو لا يخبر الناس ليكذبوه بل يخبرهم ليعتقدوا ثبوت ما أخبرهم به ويعتقدوا أن المقذوف قد فعل الفاحشة وهم ليس لهم أن يقولوا ذلك إلا بأربعة شهداء فإذا لم يأت بأربعة شهداء فهو عند الله كاذب لأنه أخبر الناس بأن هذا فعل الفاحشة وقال خبرا طلب به تصديقهم وأن يظهر أن هذا فعلها فحقيقية خبره أن هذا فعل فاحشة ظاهرة يرتب عليها هذا بل ان كان فعل شيئا فقد فعله سرا لم يعلم به الناس وقد علم أن الذنب إذا كتم لم يضر الا صاحبه ولكن إذا أعلن فلم ينكر ضر الناس وهذا لم يعلنه وأكثر المسلمين إذا فعل أحدهم فاحشة باطنة تاب منها ومن إعلانها يتشبه الناس بعضهم ببعض في ذلك فلهذا نهى الله عن فعلها وعن التكلم بها صدقا وغير صدق فإنها اذا فعلت وكتمت خف أمرها وإذا أظهرت كان فيها مفاسد كثيرة قال النبي ﷺ من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله وقال كل أمتي معافى الا المجاهدين وإن من المهاجدة ان يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يقول يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فقد نهى الله تعالى صاحبها أن يظهرها ويعلنها فكيف القاذف بخلاف ما اذا أقر بها عند ولي أمر ليقيم عليه الحد أو يشهد بها نصاب تام لإقامة الحد فذاك فيه منفعة وصلاح وقد يخبر بها بعض الناس سرا لمن يعلمه كيف يتوب ويستفتيه ويستشيره فيما يفعل فعلى ذلك المفتى والمشير أن يكتم عليه ذلك ولا يشيع الفاحشة وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الناس في من قال اني رسول قسمان إما مصدق وإما غير مصدق فمن ليس بمصدق لا يمكنه أن يأتي بمثل آيات الانبياء سواء قال انه كاذب أو توقف في التصديق والتكذيب وكذلك المؤمنون أتباع الانبياء اذا أتوا بآية كانت دليلا على نبوة النبي الذي اتبعوه فلا يمكن من لا يصدق النبي أن يعارضهم ومتى عارضهم لم تكن من آيات الانبياء ولهذا كان أبو مسلم لما قال له الاسود العنسي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فألقاه في النار فصارت عليه بردا وسلاما فكرامات الصالحين هي مستلزمة لصدقهم في قولهم ان محمد رسول ولثبوت نبوته فهي من جملة آيات الانبياء وآياتهم وما خصهم الله به لا يكون لغير الانبياء واذا قال القائل معجزات الانبياء وآياتهم وما خصهم الله به فهذا كلام مجمل فانه لا ريب أن الله خص الانبياء بخصائص لا توجد لغيرهم ولا ريب ان من آياتهم ما لا يقدر ان يأتي به غير الانبياء بل النبي الواحد له آيات لم يأت بها غيره من الانبياء كالعصا واليد لموسى وفرق البحر فإن هذا لم يكن لغير موسى وكانشقاق القمر والقرآن وتفجير الماء من بين الأصابع وغير ذلك من الآيات التي لم تكن لغير محمد من الانبياء وكالناقة التي لصالح فإن تلك الآية لم يكن مثلها لغيره وهو خروج ناقة من الارض بخلاف احياء الموتى فانه اشترك فيه كثير من الانبياء بل ومن الصالحين وملك سليمان لم يكن لغيره كما قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فطاعة الجن والطير وتسخير الريح تحمله من مكان الى مكان له ولمن معه لم يكن مثل هذه الآية لغير سليمان وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال ما من نبي من الانبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وهو من حين أتى بالقرآن وهو بمكة يقرأ على الناس قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فقد ظهر أن من آيات الانبياء ما يختص به النبي ومنها ما يأتي به عدد من الانبياء ومنها ما يشترك فيه الانبياء كلهم ويختصون به وهو الاخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه الا الله قال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا لكن ما يظهر على المؤمنين بهم من الآيات بسبب الايمان بهم فيه قولان قال طائفة ليس ذلك من آياتهم وهذا قول من يقول من شرط المعجزة أن تقارن دعوى النبوة لا تقدم عليها ولا تتأخر عنها كما قاله هؤلاء الذين يجعلون خاصة المعجزة التحدي بالمثل وعدم المعارضة ولا تكون إلا مع الدعوى كما تقدم وهو قول قد عرف فساده من وجوه والقول الثاني وهو القول الصحيح أن آيات الأولياء هي من جملة آيات الانبياء فإنها مستلزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم فإنه لولا ذلك لما كان هؤلاء أولياء ولم تكن لهم كرامات لكن يحتاج أن يفرق بين كرامات الأولياء وبين خوارق السحرة والكهان وما يكون للكفار والفساق وأهل الضلال والغي بإعانة الشياطين لهم كما يفرق بين ذلك وبين آيات الانبياء والفروق بين ذلك كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع

فصل

فقد تبين أن من آيات الانبياء ما يظهر مثله على اتباعهم ويكون ما يظهر على أتباعهم من آياتهم فان ذلك مختص بمن يشهد بنبوتهم فهو مستلزم له لا تكون تلك الآيات الا لمن أخبر بنبوتهم وإذا لم يخبر بنبوتهم لم تكن له تلك الآيات وهذا حد الدليل وهو أن يكون مستلزما للمدلول عليه فإذا عدم المدلول عليه عدم الدليل ولهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الاسلام وصدق الرسول كما ذكر أن خالد بن الوليد شرب السم لما طلب منه آية ولم يضره

فصل

في معنى خرق العادة وأن الاعتبار أن تكون خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بحيث تختص بالانبياء فلا توجد الا مع الإخبار بنبوتهم وأما إخبار الكهان ببعض الامور الغائبة لإخبار الشياطين لهم بذلك وسحر السحرة بحيث يموت الانسان من السحر أو يمرض ويمنع من النكاح ونحو ذلك مما هو باعانة الشياطين فهذا أمر موجود في العالم كثير معتاد يعرفه الناس ليس هذا من خرق العادة بل هو من العجائب الغريبة التي يختص بها بعض الناس كما يختص قوم بخفة اليد والشعبذة وقوم بالسباحة الغريبة حتى يضطجع أحدهم على الماء وكما يختص قوم بالقيافة حتى يباينوا بها غيرهم وكما يختص قوم بالعيافة ونحو ذلك مما هو موجود ولهذا كان مكذبو الرسل يجعلون آياتهم من جنس السحر وهذا مستقر في نفوسهم أن الساحر ليس برسول ولا نبي كما في قصة موسى لما قالوا ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحرة فماذا تأمرون قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون وهذا لحيرتهم وضلالتهم تارة ينسبون إلى الجنون وعدم العقل وتارة الى الحذق والخبرة التي ينال بها السحر فان السحر لا يقدر عليه ولا يحسنه كل أحد لكن العجائب والخوارق المقدورة للناس منها ما سببه من الناس بحذقهم في ذلك الفن كما يحذق الرجل في صناعة من الصناعات وكما يحذق الشاعر والخطيب والعالم في شعره وخطابته وعلمه وكما يحذق بعض الناس في رمي النشاب وحمل الرمح وركوب الخيل فهذه كلها قد يأتي الشخص منها بما لا يقدر عليه أهل البلد بل أهل الاقليم لكنها مع ذلك مقدورة مكتسبة معتاده بدون النبوة قد فعل مثلها ناس آخرون قبلهم أو في مكان آخر فليست هي خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بل توجد معتادة لطائفة من الناس وهم لا يقولون انهم أنبياء ولا يخبر أحد عنهم بأنهم أنبياء ومن هنا دخل الغلط على كثير من الناس فإنهم لما رأوا آيات الانبياء خارقة للعادة لم يعتد الناس مثلها اخذوا مسمى خرق العادة ولم يميزوا بين ما يختص به الانبياء ومن أخبر بنبوتهم وبين ما يوجد معتادا لغيرهم واضطربوا في مسمى هذا الاسم كما اضطربوا في مسمى المعجزات ولهذا لم يسمها الله في كتابه إلا آيات وبراهين فإن ذلك اسم يدل على مقصودها ويختص بها لا يقع على غيرها لم يسمها معجزة ولا خرق عادة وان كان ذلك من بعض صفاتها فهي لا تكون آية وبرهانا حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس عن الإتيان بمثلها لكن هذا بعض صفاتها وشرط فيها وهو من لوازمها لكن شرط الشيء ولازمه قد يكون أعم منه وهؤلاء جعلوا مسمى المعجزة وخرق العادة هو الحد المطابق لها طردا وعسكا كما أن بعض الناس يجعل اسمها أنها عجائب وآيات الانبياء اذا وصفت بذلك فينبغي أن تقيد بما يختص بها فيقال العجائب التي أتت بها الانبياء وخوارق العادات والمعجزات التي ظهرت على أيديهم أو التي لا يقدر عليها البشر أو لا يقدر عليها الانس والجن أو لا يقدر عليها الا الله بمعنى أنه لا يقدر عليها أحد بحيلة واكتساب كما يقدرون على السحر والكهانة فبذلك تتميز آياتهم عما ليس من آياتهم وإلا فلفظ العجائب قد يدخل فيه بعض الناس الشعبذة ونحوها والتعجب في اللغة يكون من أمر خرج عن نظائره وما خرج عن نظائره فقد خرق تلك العادة المعينة في نظائره فهو أيضا خارق للعادة وهذا شرط في آيات الانبياء أن لا يكون لها نظير لغير الانبياء ومن يصدقهم فإذا وجد نظيرها من كل وجه لغير الانبياء ومن شهد لهم بالنبوة لم تكن تلك من آياتهم بل كانت مشتركة بين من يخبر بنبوتهم ومن لا يخبر بنبوتهم كما يشترك هؤلاء وهؤلاء في الطب والصناعات وأما السحر والكهانة فهو من إعانة الشياطين لبني آدم فإن الكاهن يخبره الجن وكذلك الساحر انما يقتل ويمرض ويصعد في الهواء ونحو ذلك باعانة الشياطين له فأمورهم خارجة عما اعتاده الانس باعانة الشياطين لهم قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله فالجن والانس قد استمتع بعضهم ببعض فاستخدم هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء في أمور كثيرة كل منهم فعل للآخر ما هو غرضه ليعينه على غرضه والسحر والكهانة من هذا الباب وكذلك ما يوجد لعباد الكفار من المشركين وأهل الكتاب ولعباد المنافقين والملحدين من المظهرين للاسلام والمبتدعين منهم كلها باعانة الجن والشياطين لكن الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه فإذا كان القوم كفارا لا ينكرون السحر والكهانة كما كانت العرب وكالهند والترك المشركين ظهروا بهذا الوصف لأن هذا معظم عند تلك الأمة وإن كان هذا مذموما عند أولئك كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى أظهرته الشياطين فيمن يظهر العبادة ولا يكون مخلصا لله في عبادته متبعا للانبياء بل يكون فيه شرك ونفاق وبدعة فتظهر له هذه الامور التي ظهرت للكهان والسحرة حتى يظن أولئك أن هذه من كرامات الصالحين وأن ما هو عليه هذا الشخص من العبادة هو طريق أولياء الله وإن كان مخالفا لطريق الانبياء حتى يعتقد من يعتقد أن لله طريقا يسلكها اليه أولياؤه غير الايمان بالانبياء وتصديقهم وقد يعتقد بعض هؤلاء أن في هؤلاء من هو أفضل من الانبياء وحقيقة الامر أن هؤلاء عارضوا الانبياء كما كانت تعارضهم السحرة والكهان كما عارضت السحرة لموسى وكما كان كثير من المنافقين يتحاكمون إلى بعض الكهان دون النبي ﷺ ويجعلونه نظير النبي وكان في العرب عدة من هؤلاء وكان بالمدينة منهم أبو برزة الاسلمي قبل أن يسلم كان كاهنا وقد قيل ان الذي أنزل الله تعالى فيه الم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقد ذكر قصته غير واحد من المفسرين ولما كان الذين يعارضون آيات الانبياء من السحرة والكهان لا يأتون بمثل آياتهم بل يكون بينهما شبه كشبه الشعر بالقرآن ولهذا قالوا في النبي إنه ساحر وكاهن وشاعر مجنون قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فجعلوا له مثلا لا يماثله بل بينهما شبه مع وجود الفارق المبين وهذا هو القياس الفاسد فلما كان الشعر كلاما له فواصل ومقاطع والقرآن آيات له فواصل ومقاطع قالوا شاعر ولكن شتان وكذلك الكاهن يخبر ببعض المغيبات ولكن يكذب كثيرا وهو يخبر بذلك عن الشياطين وعليه من آثارهم ما يدل على أنه أفاك أثيم كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون فذكر سبحانه الفرق بين النبي وبين الكاهن والشاعر وكذلك الساحر لما كان يتصرف في العقول والنفوس بما يغيرها وكان من سمع القرآن وكلام الرسول خضع له عقله ولبه وانقادت له نفسه وقلبه صاروا يقولون ساحر وشتان وكذلك مجنون لما كان المجنون يخالف عادات الكفار وغيرهم لكن بما فيه فساد لا صلاح والانبياء جاءوا بما يخالف عادات الكفار لكن بما فيه صلاح لا فساد قالوا مجنون قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتارة يصفونه بغاية الحذر والخبرة والمعرفة فيقولون ساحر وتارة بغاية الجهل والغباوة والحمق فيقولون مجنون وقد ضلوا في هذا وهذا كما قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فهم بمنزلة السائر في الطريق وقد ضل عنها يأخذ يمينا وشمالا ولا يهتدي الى السبيل التي تسلك والسبيل التي يجب سلوكها قول الصدق والعمل بالعدل. والكهانة والسحر يناقض النبوة فإن هؤلاء تعينهم الشياطين تخبرهم وتعاونهم بتصرفات خارقة ومقصودهم الكفر والفسوق والعصيان والانبياء تعينهم الملائكة هم الذين يأتونهم فيخبرونهم بالغيب ويعاونونهم بتصرفات خارقة كما كانت الملائكة تعين النبي ﷺ في مغازية مثل يوم بدر أمده الله بألف من الملائكة ويوم حنين قال ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم وقال تعالى ان لا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى اذ يوحي ربك الى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد بين سبحانه أن الذي جاء بالقرآن ملك كريم ليس بشيطان فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون ولما كانت الانبياء مؤيدة بالملائكة والسحرة والكهان تقترن بهم الشياطين كان من الفروق التي بينهم الفروق التي بين الملائكة والشياطين والمتفلسفة الذين لم يعرفوا الملائكة والجن كابن سينا وأمثاله ظنوا أن هذه الخوارق من قوى النفس قالوا والفرق بين النبي والساحر أن النبي يأمر بالخير والساحر يأمر بالشر وجعلوا ما يحصل للممرور من هذا الجنس اذ لم يعرفوا صرع الجن للانسان وإن الجني يتكلم على لسان الانسان كما قد عرف ذلك الخاصة والعامة وعرفه علماء الأمة وأئمتها كما قد بسط في غير هذا الموضع والجهمية المجبرة الذين قالوا ان الله قد يفعل كل ممكن مقدور لا ينزهونه عن فعل شيء ويقولون انه يفعل بلا سبب ولا حكمة وهو الخالق بجميع الحوادث لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة ولا ما تأتي به الشياطين بل الجميع يضيفونه الى الله على حد واحد ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم حتى يأتي الرسول فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر والحسن والقبيح فلهذا لم يفرقوا بين آيات الانبياء وخوارق السحرة والكهان بل قالوا ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الانبياء وما ياتي به الانبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان لكن ان دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله فهؤلاء لما رأوا ما جاءت به الانبياء وعلموا أن آياتهم تدل على صدقهم وعلموا ذلك اما بضرورة وإما بنظر واحتاجوا الى بيان دلائل النبوة على أصلهم كان غاية ما قالوا أنه كل شيء يمكن أن يكون آية للنبي بشرط أن يقترن بدعواه وبشرط أن يتحدى بالاتيان بالمثل فلا يعارض ومعنى التحدي بالمثل أن يقول لمن دعاهم ائتوا بمثله وزعموا أنه اذا كان هناك سحرة وكهان وكانت معجزته من جنس ما يظهر على أيديهم من السحر والكهانة فإن الله لا بد أن يمنعهم عن مثل ما كانوا يفعلونه وأن من ادعى منهم النبوة فانه يمنعه من تلك الخوارق أو يقيض له من يعارضه بمثلها فهذا غاية تحقيقهم وفيه من الفساد ما يطول وصفه وطاعة الجن والشياطين لسليمان صلوات الله عليه لم تكن من جنس معاونتهم للسحرة والكهان والكفار وأهل الضلال والغي ولم تكن الآية والمعجزة والكرامة التي أكرمه الله بها هي ما كانوا يعتادونه مع الانس فإن ذلك انما كان يكون في أمور معتادة مثل اخبارهم أحيانا ببعض الغائبات ومثل إمراضهم وقتلهم لبعض الانس كما أن الانسي قد يمرض ويقتل غيره ثم هم انما يعاونون الانس على الإثم والعدوان إذا كانت الاناسي من أهل الإثم والعدوان يفعلون ما تهواه الشياطين فتفعل الشياطين بعض ما يهوونه قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وأما التسخير الذي سخروه لسليمان فلم يكن لغيره من الانبياء فضلا عمن ليس بنبي وقد سأل ربه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فقال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب قال تعالى فسخروا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وقال تعالى ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره على الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا له حافظين وقال تعالى ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلناله عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل دواد شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وكذلك ما ذكره من قول العفريت له أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فهذه الطاعة من التسخبر بغير اختيارهم في مثل هذه الاعمال الظاهرة العظيمة ليس مما فعلته بأحد من الانس وكان ذلك بغير أن يفعل شيئا مما يهوونه من العزائم والاقسام والطلاسم الشركية كما يزعم الكفار أن سليمان سخرهم بهذا فنزهه الله عن ذلك بقوله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وأما طاعة الجن لنبينا وغيره من الرسل كموسى فهذا نوع آخر فان هذا طاعتهم فيما أمرهم الله به من عبادته وطاعته كطاعة الانس لنبينا حيث أرسل الى الطائفتين فدعاهم الى عبادة الله وحده وطاعته ونهاهم عن معصيته التي بها يستحقون العذاب في الآخرة وكذلك الرسل دعوهم إلى ذلك وسليمان منهم لكن هذا انما ينتفع به منهم من آمن طوعا ومن لم يؤمن فإنه يكون بحسب شريعة ذلك الرسول هل يترك حتى يكون الله هو الذي ينتقم منه أو يجاهد وسليمان كان على شريعة التوراة واستخدامه لمن لم يؤمن منهم هو مثل استخدام الاسير الكافر فحال نبينا مع الجن والانس أكمل من حال سليمان وغيره فإن طاعتهم لسليمان كانت طاعة ملكية فيما يشاء وأما طاعتهم لمحمد فطاعة نبوة ورسالة فيما يأمرهم به من عبادة الله وطاعة الله واجتناب معصية الله فان سليمان كان نبيا ملكا ومحمد ﷺ كان عبدا رسولا مثل ابراهيم وموسى وسليمان مثل داود ويوسف وغيرهما مع أن داود وسليمان ويوسف هم رسل أيضا دعوا إلى توحيد الله وعبادته كما أخبر الله أن يوسف دعا أهل مصر لكن بغير معاداة لمن لم يؤمن ولا إظهار مناوأة بالذم والعيب والطعن لما هم عليه كما كان نبينا أول ما انزل عليه الوحي وكانت قريش اذ ذاك تقره ولا تنكر عليه إلى أن أظهر عيب آلهتهم ودينهم وعيب ما كانت عليه آباؤهم وسفه أحلامهم فهنالك عادوه وآذوه وكان ذلك جهادا باللسان قبل أن يؤمر بجهاد اليد قال تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وكذلك موسى مع فرعون أمره أن يؤمن بالله وأن يرسل معه بني إسرائيل وان كره ذلك وجاهد فرعون بالزامه بذلك بالآيات التي كان الله يعاقبهم بها إلى أن أهلكه الله وقومه على يديه

مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية

  مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية ( وهي من أعظم ما تصدى له وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه م...