حذف 12. صفحة من مدونتي

12. صفحة تحذفهم با مفتري حسبي الله ونعم الوكيل

Translate

الخميس، 22 أغسطس 2024

مجموع الفتاوى لابن تيمية /المجلد الثامن عشر/سئل عن أحاديث يرويها قصاص

 

سئل عن أحاديث يرويها قصاص

ما تقوله السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين في أناس قصاصين؟ ينقلون مغازي النبي ﷺ، وقصص الأنبياء عليهم السلام تحت القلعة، وفي الجوامع والأسواق، ويقولون: إن النبي أتي إليه ملك يقال له: حبيب، فقال له: إن كنت رسول الله فإنا نريد أن القمر ليلة تسعٍ وعشرين يعود وينزل من طوقك ويطلع من أكمامك، فأراهم ذلك، فآمنوا به جميعهم وقال: كانوا الرب.

ويقولون: إنه أتي إليه ملك يقال له: بشير بن غَنَّام عمل عليه حيلة وأخذ منه تسع أنفس علقهم على النخل، فبعث النبي ﷺ عليا فخلصهم، وكان من جملتهم خالد.

وأتي إليه ملك وهو في مكة يقال له: الملك الدحاق، وكانت له بنت اسمها حَمَاَنةَ فكسر النبي ﷺ وزوج بنته لبلال، فقتله وهو في الصلاة، فحط النبي ﷺ بردته فأحياه الله له.

وأنه بعث المقداد إلى ملك يقال له: الملك الخَطَّار، فالتقي في طريقه ملكة يقال لها: روضة، فتزوج بها، وراح إلى الملك الذي أرسل إليه فاقتتل هو وإياه فأسره، وجاء إلى النبي ﷺ، وقاتل في غزاة تبوك بُولص بن عبد الصليب، وأنه قاتل في الأحزاب وكانوا ألوفًا، وانكسرت الأحزاب قُدَّام على سبع عشرة فرقة، وخلف كل واحدة رجل يضرب بالسيف ويقول: أنا على وليه ضرب عمرو بن العامري فقطع فخذه، فأخذ عمرو فخذه وضرب بها في المسلمين فقلع شجرة وقتل بها جماعة منهم، والملائكة ضجت عند ذلك وقالوا: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على.

وأن عليا قاتل الجن في البئر، ورماه بالمنجنيق إلى حصن الغراب، وجاءت رَمْيتَه ناقصة فمشي في الهواء، وأنه ضرب مَرْحَب إليهودي، وكان على رأسه جُرْن رُخَام فقسم له وللفرس نصفين، وأنه عبر العسكر على زِنْدِه إلى خيبر وهد الحصن، وأن ذا الفقار أنزل إليه من السماء، فإن الله سماه من السماء، وقال: على أسبق من العجل، وأنه بعث مع كل نبي سرًا وبعث مع النبي جهرًا، وأنه كان عصا موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان، وأنه شرب من سُرِّة النبي ﷺ لما مات، فوزن علم الأولين والآخرين.

وأن ملك الموت جاء إلى النبي ﷺ في زي أعرابي، فقال له النبي: قابض أم زائر؟ فقال له: ما زرت أحدًا من قبلك حتى أزورك، فأعطاه تفاحة، فشمها، فخرجت روحه فيها، وأن فاطمة بكت عليه حتى أقلقت أهل المدينة حتى أخرجوها إلى بيوت الأحزان، وينقلون قصص الأنبياء من جنس هذا السؤال، ويفسرونها بآيات لم تسمع من أهل العلم، وكل واحدة من هذه تحزبوا فيها ليلة.

وكان بعض العلماء قد منعهم من هذا النقل، وأنهم لا ينقلون إلا من كتب عليها سماعات المشايخ أهل العلم، فاعتمدوا على كتب فيها من جنس ما ذكر من تصنيف رجل يقال له: البكري، فما يجب عليهم في مثل هذه الأمور؟ لأنهم ينقلون ما يخالف ما ثبت عن الرسل -عليهم السلام- وينقلون في بعض الأشياء ما هو تنقيص بهم، وهل يثاب من أمر بمنعهم؟

وينقلون أيضا: أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت. فخلق الله من كل قطرة نبيا، وكانت القبضة النبي وبقي كوكب دري، وكان نورًا منقولًا من أصلاب الرجال إلى بطون النساء.

فأجاب شيخ الإسلام، قدوة الإيمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، فقال:

الحمد لله رب العالمين، هذه الأحاديث من الأحاديث المفتراة باتفاق أهل العلم، وإنما تؤخذ مثل هذه الأحاديث من مثل تنقلات الأنوار للبكري وأمثاله ممن روي الأكاذيب الكثيرة.

أما الأول، فإن القمر لم يدخل في طوق النبي ﷺ ولا ثيابه ولا باشر النبي ﷺ، ولكن انشق فرقتين: فرقة دون الجبل، وفرقة فوق الجبل.

وكذلك حبيب أبي مالك لا وجود له، والحديث المذكور عن بشير بن غنام -أيضا- كذب، وهذا الاسم غير معروف. وخالد بن الوليد لم يؤسر أصلًا، بل أسلم بعد الحديبية، وما زال منصورًا في حروبه.

وكذلك ما ذكر عن المسمى بالملك الدحاق كذب، وهذا الاسم لا وجود له فيمن حاز به النبي ﷺ عاش، ولكن الذين عاشوا بعد الموت في هذه الأمة كان بينهم طائفة في زمن الصحابة والتابعين، وأما من أحيا الله له دابته بعد الموت من المؤمنين فهؤلاء بعضهم كان من المسلمين على عهد النبي ﷺ، ومنهم من كان بعد موته ﷺ.

وكذلك ما ذكر عن الملك المسمى بالخطار، هو من الأكاذيب ولا وجود له. وأما غزاة تبوك فلم يكن بها قتال، بل قدم النبي ﷺ بالشام رومهم وعربهم، وغيرهم، ولم يجتمع المسلمون في غزاة مع النبي ﷺ أكثر مما اجتمع معه عام تبوك، وهي آخر المغازي، وأقام بتبوك عشرين يومًا فلم تقدم عليه النصاري.

وكذلك الأحزاب، لم يكن فيها اقتتال بين الجيشين، بل كان الأحزاب محاصرين للمسلمين خارج الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وكان المسلمون داخل الخندق، وكان فيها مناوشة قليلة بين بعض المسلمين وبعض الكفار بمنزلة المبارزة أو ما يشبهها، وقتل على رضي الله عنه عمرو بن عبد ود العامري، ولم تنكسر الأحزاب بقتال، ولا قتل منهم ولا من المسلمين عدد له قدر، بل أرسل الله عليهم الريح ريح الصبا وأرسل الملائكة، كما قال تعالى في قصة الأحزاب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عليهمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } الآيات 1، وما ذكر من كيفية قتل عمرو بن عبد ود العامري فهو كذب، وكذلك ضرب عمرو بن عبد ود الشجرة بفخذه وقلعها كذب، ولم يكن هناك شجر وإنما النخيل كان بعيدًا من العسكر.

وكذلك ما ذكر من مناداة المنادي بقوله: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتي إلا على» كذب مفتري، وكذلك من نقل أن ذلك كان يوم بدر أو غيره، وذو الفقار لم يكن سيفًا لعلى، ولكن كان سيفًا لأبي جهل، غنمه المسلمون منه يوم بدر، وكان سيفًا من السيوف المعدنية، ولم ينزل من السماء سيف، ولم يكن سيف يطول لا هو ولا غيره.

وكذلك ما ذكره من قتال الجن، وأن عليا أو غيره من الإنس قاتلهم في بئر ذات العلم أو غيره من الإنس، فهذا كله كذب، والجن لم تكن لتقاتل الصحابة أصلًا، ولكن الجن الكفار كانوا يقاتلون الجن المؤمنين، وأما على وأمثاله من الصحابة فهم أجلُّ قدرًا من أن يثبت الجن لقتالهم. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لعمر بن الخطاب: «ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك».

وما ذكر من رمي علي في المنجنيق، ومحاصرة المسمى بحصن الغراب، كله كذب مفترى، ولم يرم المسلمون قط أحدًا في منجنيق إلى الكفار لا عليا ولا غيره، بل ولم ينصب المسلمون على عهد النبي ﷺ منجنيقًا إلا على الطائف لما حاصرها النبي ﷺ بعد وقعة حنين وهزيمة هوازن، حاصر الطائف ونصب المنجنيق وأقام عليها شهرًا، ولم تفتح حتى أسلم أهل الطائف بعد ذلك طوعًا، ولما كان المسلمون يقاتلون مسيلمة الكذاب وأصحابه ألجؤوهم إلى حديقتهم، فحمل الناس البراء بن مالك حتى ألقوه إليهم داخل السور، ففتح لهم الباب.

وأما قصة مرحب فقد روي في الصحيح: أن عليا رضي الله عنه قتل مرحبًا، وروي في الصحيح أن محمد بن مسلمة قتل مرحبًا وقال بعضهم: بل إحدى الروايتين غلط.

وأما كون البَيْضَة التي على رأسه كانت جُرْن رخام فكذب، وكذلك كون الضربة قسمت الفارس وفرسه ونزلت إلى الأرض، فهذا كله كذب، ولم ينقل مثل هذا أهل العلم بالمغازي والسير، وإنما ينقله الجهال والكذابون.

وأظهر من ذلك عبور العسكر على ساعد على، ومرور البغلة، ودعاء على عليها بقطع النسل؛ فإن هذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بأحوال الصحابة، ومن هو من أجهل الناس بأحوال الوجود؛ فإن البغلة مازالت عقيمًا، وعسكر خيبر لم يكن فيه بغلة أصلًا، ولم يكن مع المسلمين بغلة ولا في المدينة بغلة ولا حولها من أرض العرب بغلة، إلا البغلة التي أهداها المقوقس صاحب مصر للنبي ﷺ، وكان أهداها له بعد خيبر؛ فإنه ﷺ لما صالح أهل الحديبية رجع منصرفًا ففتح الله عليهم خيبر، ثم رجع وأرسل إلى الملوك رسله، فأرسل إلى كسري، وقيصر، والمقوقس، وملوك العرب بالشام واليمن واليمامة والمشرق، ولكن المعروف عند أهل العلم أن عليا قلع باب خيبر.

وما ذكر من نزول ذو الفقار من السماء كذب، وقد تقدم أنه كان سيفًا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر منه، فأما على فقد سماه أبوه بهذا الاسم قبل أن يبعث الله محمدا بالنبوة، وقبل أن يثبت لأحد حكم الإسلام؛ لا من الرجال، ولا من الصبيان.

وأما قول القائل: إنه كان عصي موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان، فهذا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، وهو بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وهذا لا يقصد أحد مدح على به إلا لفرط في الجهل، فإن عليا -هو من دونه من الصحابة- أشرف قدرًا عندالله من هذه الجمادات، وإن كانت العصي آية لموسي، فليس كل ما كان معجزة لنبي أفضل من المؤمنين، بل المؤمنون أفضل من الطير الذي كان المسيح يصوره من الطين، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وأفضل من الجراد والقمل والضفادع والدم الذي كان آية لموسي، وأفضل من العصي والحية، وأفضل من ناقة صالح. فمن ظن أنه بهذا الكذب والجهل يمدح عليا كان جهله من المدح والثناء من جنس جهله بأن هذه الجمادات لم تكن آدميين قط.

وأما قول القائل: إنه شرب من سرة النبي ﷺ فَدَرَي علم الأولين والآخرين، فهو - أيضا - من الأكاذيب، فإن العلم الذي تعلم على من النبي ﷺ كان حاصلا قبل موته، وما رزقه الله من الفهم والسماع وزيادة العلم بعد موته فلم يكن سببه شرب ماء السرة، ولا شرب أحد على نبي ولا غير نبي فحصل له بذلك علم أصلا، ولا كان أحد من الصحابة؛ لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا على ولا غيرهم يعلم علم الأولين والآخرين.

وقد ثبت للصحابة رضي الله عنهم من الفضائل الثابتة في الصحاح ما أغني الله بها عن أكاذيب المفترين، مثل قوله الذي صح عنه من غير وجه: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» وقوله: «لا يبقين في المسجد خَوْخَةٌ إلا سدت إلا خَوْخَةَ أبي بكر» وقوله: «إن أَمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» وقوله: «أيها الناس إني أتيت إليكم، فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي» وقوله في مرضه الذي توفي فيه: «مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس» مرة بعد مرة، ومثل قوله لعائشة: «ادْعِي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر لا يختلف الناس من بعدي» ثم قال: «يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر»؛ وأمثال ذلك.

ومثل قوله: «إنه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون؛ فإن يكن في أمتي أحد فعمر»، وقوله لعمر: «ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»، وقوله: «رأيت كأني أتيت بإناء من لبن، فشربت، ثم ناولت فَضْلِي عمر، قالوا: فما أولته؟ قال: العلم»، وقوله: «رأيت كأن الناس يعرضون على وعليهم قُمُصٌ، منها ما بلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا: فما أولته؟ قال: الدين»، وقوله: «رأيت كأني على قَلِيب أنتزع منها، فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذَنُوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يَفْري فَرِيِّهُ، حتى صدر الناس بِعَطَنٍ».

وأمثال ذلك، مثل قوله عن عثمان: «ألا أستحي ممن تستحيي منه ملائكة السماء»، وقوله: «من يشتري بئر رُومَة وله الجنة» فاشتراها عثمان، وقوله في عثمان لما جهز جيش العسرة: «ماضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم»، وقوله يوم بيعة الرضوان لما بايع المسلمين تحت الشجرة: «هذه يدي عن يمين عثمان»، وكان قد بعثه رسولا إلى أهل مكة، وقال ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله ﷺ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان. وأمثال ذلك.

ومثل قوله عام خيبر: «لأعطِيَّن الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، وكان علي غائبًا بالمدينة؛ لأنه كان أَرْمَد، فلحق بالنبي ﷺ، فلما أصبح، قدم على فأعطاه الراية حتى فتح الله على يديه، ولما خرج في غزوة تبوك بجميع الناس ولم يأذن في التخلف إلا لأهل العذر واستخلف عليًا على المدينة، فطعن فيه بعض المنافقين، فلحقه على وهو يبكي، وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي؟ غير أنه لا نبي بعدي»، وأَدَارَ كساءه على على وفاطمة وحسن وحسين فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا»، ولما أراد أن يُبَاهِلَ أهل نجران أخذ عليا وفاطمة وحسنًا وحسينًا وخرج ليباهل بهم، ولما تنازع على وجعفر وزيد في حضانة ابنة حمزة قضي بها لخالتها وكانت تحت جعفر، وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».

وكذلك قال: «إن الأشعريين إذا أَرْمَلُوا في السفر أو قَلَّت نفقة عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم».

وقال: «إن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».

وقال: «إن لكل نبي حواريين وحواريي الزبير».

فهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح فيها غنية عن الكذب.

وكذلك ما ذكر من إتيان ملك الموت في صورة أعرابي، وإعطاؤه إياه تفاحة فشمها، هو أيضا من الكذب، بل الحديث الطويل الذي روي في قصة موت النبي ﷺ، وأنه طرق الباب فخرج إليه واحد بعد واحد، وأنهم لما عرفوا أنه ملك الموت خضعوا له، هو أيضا من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث. مع أنه قد رواه الطبراني من حديث عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه من حديث وهب بن منبه، عن ابن عباس، وعبد المنعم هذا معروف بالأكاذيب.

وكذلك ما ذكر من بكاء فاطمة على النبي ﷺ، حتى أقلقت أهل المدينة وأخرجوها إلى بيوت الأحزان، هذا أيضا من الأكاذيب المفتراة، وما يروي مثل هذا إلا جاهل، أو من قصده أن يسب فاطمة والصحابة رضي الله عنهم ينقل مثل هذا الفعل الذي نزه الله فاطمة والصحابة عنه.

وكذلك ما ذكر من «أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت، فخلق من كل قطرة نبيا، وأن القبضة كانت هي النبي ﷺ، وأنه بقي كوكب دري» فهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة بحديثه.

وكذلك ما يشبه هذا، مثل أحاديث يذكرها شِيرَوُيْهِ الدَّيْلَمِي في كتابه الفردوس ويذكرها ابن حَمَوَيْه في حقائقه، مثل: كتاب المحبوب ونحو ذلك، مثل ما يذكرون أن النبي ﷺ كان كوكبًا، أو أن العالم كله خلق منه، أو أنه كان موجودًا قبل أن يخلق أبواه، أو أنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل! وأمثال هذه الأمور، فكل ذلك كذب مفتري باتفاق أهل العلم بسيرته.

والأنبياء كلهم لم يُخْلَقُوا من النبي ﷺ، بل خلق كل واحد من أبويه ونفخ الله فيه الروح، ولا كان كلما يُعْلم الله لرسله وأنبيائه بوحيه يأخذونه بواسطة سوي جبريل، بل تارة يكلمهم الله وحيا يوحيه إليهم، وتارة يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى بن عمران، وتارة يبعث ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء.

ومن الأنبياء من يكون على شريعة غيره، كما كان أنبياء بني إسرائيل على شريعة التوراة.

وأما كونهم كلهم يأخذون من واحد فهذا يقوله ونحوه أهل الإلحاد من أهل الوحدة والاتحاد؛ كابن عربي صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما؛ فإنه لما ذكر مذهبه الذي مضمونه أن الوجود واحد، وأن الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وإن تعددت الأعيان الثابتة في العدم. قال: وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، وأما الولاية فلا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الأولياء.

وساق الكلام إلى أن ذكر أن خاتم الأنبياء موضع لبنة فضة، وأن خاتم الأولياء موضع لبنتين: لبنة ذهب، ولبنة فضة، فهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره وما يتبعه من الأحكام؛ لأنه يري الأمر على ما هو عليه فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن؛ فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسل.

فهذا الكلام ونحوه فيه كثير من الضلال، مثل دعواه أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة الله من خاتم الأنبياء، فإن هذا كذب.

ومن قال: إن إبراهيم الخليل، وموسى وعيسي، وغيرهم إنما استفادوا معرفة الله من النبي ﷺ فقد كذب، بل الله أوحي إليهم وعلمهم، والنبي ﷺ لم يكن موجودًا حين خُلِقُوا، والمتقدم لا يستفيد من المتأخر.
هامش

[الأحزاب: 9]

قاعدة مختصرة في وجوب طاعة الله ورسوله وولاة الأمور

 

الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ تسليمًا.

أما بعد، فهذه قاعدةٌ مختصرةٌ في وجوب طاعة الله ورسوله في كل حال على كل أحدٍ، وأن ما أمر الله به ورسوله من طاعة الله وولاة الأمور ومناصحتهم واجبٌ، وغير ذلك من الواجبات.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم، كما أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول.

قال العلماء: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد موته هو الرد إلى سنته، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فجعل الله الكتاب الذي أنزله هو الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا قام يصلي بالليل يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».

وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة». قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». 1

وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».

وفي السنن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وزيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه، ثلاثٌ لا يغل عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».

و"يغل" بالفتح هو المشهور، 2 ويقال: غلى صدره فغل 3 إذا كان ذا غشٍ وضغنٍ وحقدٍ، أي: قلب المسلم لا يغل على هذه الخصال الثلاثة، وهي الثلاثة المتقدمة في قوله: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» فإن الله إذا كان يرضاها لنا لم يكن قلب المؤمن الذي يحب ما يحبه الله يغل عليها، يبغضها ويكرهها فيكون في قلبه عليها غل، بل يحبها قلب المؤمن ويرضاها». 4

وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرها عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول أو نقوم بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم».

وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك».

ومعنى قوله: "وأثرة عليك" و"أثرة علينا" أي: وإن استأثر ولاة الأمور عليك فلم ينصفوك ولم يعطوك حقك، كما في الصحيحين عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلًا من الأنصار خلا برسول الله ﷺ، فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ فقال: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».

وهذا كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها» يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم».

وفي صحيح مسلم عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: سأل سلمةً بن يزيد الجُعْفيُّ رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث ابن قيس فقال رسول الله ﷺ: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم».

فذلك ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم هو واجب على المسلم وإن استأثروا عليه، وما نهى الله عنه ورسوله ﷺ معصيتهم فهو محرم عليه وإن أكره عليه. 5

فصل

وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة، كما يجب عليه الصلواتُ الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف عل ذلك توكيدًا وتثبيتًا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم، فالحالف على هذه الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون، فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجبٌ وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه!؟ وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم وإن لم يحلف على ذلك.

وهذا كما أنه إذا حلف ليصلينّ الخمس، وليصومنَّ شهر رمضان، أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن بالحق، فإن هذا واجبٌ عليه وإن لم يحلف عيه، فكيف إذا حلف عليه؟ وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والكذب وضرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور والخروج عما أمر الله به من طاعتهم هو محرم وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه؟

ولهذا من كان حالفًا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك، لا يجوز لأحدٍ أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث في يمينه، ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك. ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث في أيمانهم فهو مفترٍ على الله الكذب، مفتٍ بغير دين الإسلام، بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء في عقد بيع أو نكاح أو إجاره أو غير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من العقود التي يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها، فإذا حلف كان أوكد، فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود والحنث في يمينه كان مفتريًا على الله الكذب مفتيًا بغير دين الإسلام، فكيف إذا كان ذلك في معاقدة ولاة الأمور التي هي أعظم العقود التي أمر الله بالوفاء بها. 6

وهذا كما أن جمهور العلماء يقولون: يمين المكره بغير حق لا ينعقد سواء كان بالله أو النذر أو الطلاق أو العتاق، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد.

ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على ما يجب عليهم من طاعته ومناصحته وحلفهم على ذلك لم يجز لأحدٍ أن يأذن لهم في ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك، ويرخصَ لهم في الحنث في هذه الأيمان هـ لأن ما كان واجبًا بدون اليمين فاليمين تقويه لا تضعفه، ولو قدر أن صاحبها أكره عليها.

ومن أراد أن يقول بلزوم المحلوف مطلقًا في بعض الأيمان؟ لأجل تحليف ولاة الأمور أحيانًا، قيل له. وهذا يرد عليك فيما تعتقده في يمين المكره، فإنك تقول: لا يلزم فان حلف بها ولاة الأمور، ويرد عليك في أمورٍ كثيرةٍ تفتي بها في الحيل، مع ما فيه من معصية الله تعالى ورسوله وولاة الأمور.

أما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم، بوجه من الوجوه، كما قد عُرف من عادات أهل السنة، الدين قديمًا وحديثًا ومن سيرة غيرهم.

وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ، أنه قال: «ينصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة عند أسته بقدر غدره» قال: وإن من أعظم الغدر يعني بإمام المسلمين، 7 وهذا حدّث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته". 8

وفي صحيح مسلم عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من خلع يدًا [من طاعة] لقي الله يوم القيامة ولا حُجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهليةً».

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «من رأى من أمير شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس يخرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلاّ مات ميتةً جاهليةً».

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليةً، عن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصية فقُتل فقتلةٌ جاهليةٌ». وفي لفظ: «ليس من أمتي من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشا من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدها، فليس مني ولست منه».

فالأول: هو الذي يخرج من طاعة ولي الأمر ويفارق الجماعة.

والثاني: هو الذي يقاتل لأجل العصبية والرياسة لا في سبيل الله، كأهل الأهواء مثل قيس ويمن.

والثالث: مثل الذي يقطع الطريق فيقتل من لقيه من مسلم وذمي، ليأخذ ماله، وكالحرورية المارقين الذين قاتلهم علي بن أبي طالب الذين قال فيهم النبي ﷺ: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاكم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة». 9

وقد أمر النبي ﷺ بطاعة ولي الأمر وإن كان عبدًا حبشيًا، كما في صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استمعل عليكم عبدٌ حبشيٌ كأنَّ رأسه زبيبةٌ». 10

وعن أبي ذر قال: أوصاني خليلي: «أن اسمعوا وأطيعوا ولو كان حبشيًا مجدع الأطراف». 11

وعند البخاري: «ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة». 12

وفي صحيح مسلم عن أم الحصين رضي الله عنها: سمعت رسول الله ﷺ بحجة الوداع وهو يقول: «ولو استعمل عبدٌ 13 يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا»، وفي رواية: «عبد حبشي مجدعًا».

وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عيكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية [الله] فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعةٍ».

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا».

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به».

وفي الصحيحين عن الحسن البصري قال: عاد عبيد الله 14 بن زياد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه فقال له معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله ﷺ، إني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنَّة».

وفي رواية لمسلم: «ما من أمير يلي من أمر المسلمين شيئًا لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنَّة».

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، [فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئولٌ عن رعيته] والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه: أن النبي ﷺ بعث جيشًا وأمَّر عليهم رجلًا، فأوقد نارًا، فقال: ادخلوها. فأراد الناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين: قولًا حسنًا، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف».

فصل

قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}. وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.

فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية فإن اعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق.

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجلٌ على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايع رجلًا بسلعةٍ بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقَّه وهو [على] غير ذلك، ورجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفي، وإن لم يعطه منها لم يف».


هامش

 

  روى ابن أبي عاصم في السنة (2/ 507) عن النبي ﷺ قال: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه». قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي في الرياض الناضرة: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير، إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم، ولزوم أمرهم الذي لا يخالف أمر الله ورسله، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب حاله، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم، فإن في ذلك شرًا وضررًا وفسادًا كبيرًا فمن نصيحتهم الحذر والتحذير من ذلك، وعلى من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سرًا لا علنًا بلطف وعبارة تليق بالمقام ويحصل بها المقصود، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمور، فإن تنبيههم عل هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص،. واحذر أيها الناصح لهم عل هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم وقلت وقلت. فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أخر معروفة".

    قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث: "وأما قول النبي ﷺ: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن..» فإنه يروى لا يغل ولا يُغِل. فمن قال: يَغِل بالفتح فإنه يجعله من الغل وهو الحقد والضغن والشحناء، ومن قال: يُغِل بضم الياء جعله من الخيانة من الإغلال".

    كذا في الأصل، والصواب: غل صدره يغل.

    يؤكد هذا المعنى ما في سنن الدارمي: «لا يعتقد قلبُ مسلم على ثلاث خصال إلا دخل الجنة، قال قلت: ما هن؟ قال: إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».

    قال ابن أبي العز الحنفي عند شرحه لقول الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا"، قال: "وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير فليتركوا الظلم" شرح العقيدة الطحاوية

    قال الخطابي في غريب الحديث (2/ 318): "وإنما قيل لهم أهل العقدة؛ لأن الناس قد عقدوا لهم البيعة وأعطوهم الصفقة، ومعنى العُقدة أي: البيعة المعقودة لهم".

    أي من أعظم الغدرِ الغدر بإمام المسلمين

    متفق عليه. ولفظ البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي ﷺ يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة» وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله روسوله وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله روسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه. قال التيمي في الحجة: "قال أهل اللغة: والفيصل: القطيعة والهجران". وقال ابن حجر في الفتح (13/ 71): "وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق".

    متفق عليه

    صحيح البخاري (4/ 329)

    صحيح مسلم (3/ 1467).

    صحيح البخاري (1/ 230).

    في الأصل: "عبدًا".

  في الأصل: "عبد الله"

تصنيف:

قاعدة مختصرة في وجوب طاعة الله ورسوله وولاة الأمور

مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية

  مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية ( وهي من أعظم ما تصدى له وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه م...