حذف 12. صفحة من مدونتي

12. صفحة تحذفهم با مفتري حسبي الله ونعم الوكيل

Translate

الخميس، 22 أغسطس 2024

مجموعة الرسائل والمسائل​ المؤلف ابن تيمية

 مجموعة الرسائل والمسائل

 


​ المؤلف ابن تيمية 

 

الشفاعة الشرعية 

 

والتوسل

الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

بسم الله الرحمن الرحيم

وسئل أيضا رحمه الله تعالى: هل يجوز للإنسان أن يتشفع بالنبي ﷺ في طلب حاجة أم لا؟

فأجاب: الحمد لله. أجمع المسلمون على أن النبي ﷺ يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.

ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة واستفاضت به السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع أيضا لعموم الخلق.

وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، ومنهم من أنكر الشفاعة مطلقا.

وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيسقون.

وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي ﷺ يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... ثمال اليتامى عصمة للأرامل

الشفاعة: ما يسوغ منها وما يحظر

فالاستسقاء هو من جنس الاستشفاع به وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه وقال: اللهم إنا نستشفع ونتوسل إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا، ولهذا قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح وإذا كانوا بهذه المثابة وهم من أهل بيت رسول الله ﷺ كان أحسن. وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلا قال: أنا أستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله ﷺ حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه فقال: " ويحك أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك " فأنكر عليه قوله: إنا نستشفع بالله عليك، ولم ينكر عليه قوله: نستشفع بك على الله - لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب والله تعالى لا يسأل أحدا من عباده أن يقضي حوائج خلقه وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله:

شفيعي إليك الله لا رب غيره... وليس إلى رد الشفيع سبيل

فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم، وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله ورسوله وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسؤول المدعو الذي " يسأله من في السموات والأرض " والرسول ﷺ يستشفع به إلى الله أي يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ولا نزاع بين جماهير الأمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، وعند الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر لأن الكبائر عندهم لا تغفر ولا يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها.

الاحتجاج بفعل عمر ومعاوية رضي الله عنهما في الاستسقاء

ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر ولا يخلد أحد في النار من أهل الإيمان بل يخرج من النار من في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه وليس معناه الإقسام به على الله والسؤال بذاته بحضوره، فأما في مغيبه أو بعد موته فالإقسام به على الله والسؤال بذاته لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمن كان حيا كالعباس وكيزيد بن الأسود رضي الله عنهما، ولم ينقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي ﷺ عند قبره ولا غيره فلم يقسموا بالمخلوق على الله عز وجل ولا سألوه بمخلوق نبي ولا غيره بل عدلوا إلى خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، فجعلوا هذا بدلا عن ذاك لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.

وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك. ولا نقل عنهم أنهم تشفعوا عند قبره ولا في دعائهم في الصحراء.

وقد قال ﷺ: " اللهم لا تجعل قبري وثنا، واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره. وفي سنن أبي داود أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيدا " وقال: " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا: وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".

حديث الأعمى ووجوه التأويل فيه

وقد روى الترمذي حديثا صحيحا عن النبي ﷺ أنه علم رجلا أن يدعو فيقول: " اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في ". روى النسائي نحو هذا الدعاء.

وفي الترمذي وابن ماجة عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك " قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في ". قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: " فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفعه في " قال: فدعا وقد كشف الله عن بصره. فهذا الحديث فيه التوسل إلى الله به في الدعاء. ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقا حيا وميتا، ومنهم من يقول: هذه قضية عين وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته لا التوسل بذاته، كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلا عنه فلو كان التوسل به حيا وميتا مشروعا لم يميلوا عنه وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، إلى غيره ليس ممن مثله، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون وهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وما ينفع، وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث، بكل طريق، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه، ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه. وذلك أن التوسل به حيا هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك لا عند قبره ولا عند غيره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين، وإن كان قد روي في ذلك حكايات مكذوبة عن بعض المتأخرين بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن، فقد روي أنه ﷺ قال لعمر بن الخطاب لما استأذنه في العمرة: " لا تنسنا يا أخي من دعائك " حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير وقد أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة وأن يصلوا عليه.

دعاء الناس بعضهم لبعض

وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال: " ما من رجل يدعو لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكل به: آمين ولك مثل ذلك " فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما: أن يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه فهذا بمنزلة أن يسأل الناس قضاء حوائجه.

والثاني: أنه يطلب منه الدعاء لينتفع الداعي بدعائه له وينتفع هو فينفع الله هذا وهذا بذلك الدعاء كمن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فطلب الدعاء جائز كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه فإما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله، لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، لا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، ونحو ذلك. ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق فجاؤوا إليه فقال: " إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله " وهذا في الاستعانة مثل ذلك.

الاستعانة لا تكون إلا بالله

فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب ولهذا قال تعالى: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ". وفي دعاء موسى عليه الصلاة والسلام: وبك المستغاث. وقال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وقد قال تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ". وقال تعالى: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة " الآية. 1 فبين أن من اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أربابا فهو كافر. وقال تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض - إلى قوله - ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ".2 وقال تعالى: " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ". وقال تعالى: " ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ". وقال تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " الآية.3 وقال تعالى عن صاحب ياسين: " وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون " الآية. وقال تعالى: " ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له ". وقال تعالى: " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ". وقال تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ".

الفرق بين حال الغيبة والحضور، والحياة والموت==== فالشفاعة نوعان: أحدهما: التي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم وهي شرك.

والثانية: أن يشفع الشفيع بأن المشفع الله التي أثبتها الله لعباده الصالحين. ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد تحت العرش قال: " فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال: أي محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع ". فإذا أذن الله في الشفاعة شفع لمن أراد الله أن يشفع فيه. قال أصحاب هذا القول: فلا يجوز أن يشرع ذلك في مغيبه بعد موته، وهو معنى الإقسام به على الله والسؤال بذاته، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فرقوا بين الأمرين، فإن في حياته ﷺ ليس في ذلك محذور ولا مفسدة، فإن أحدا من الأنبياء لم يعبد في حياته بحضوره فإنه ينهى أن يشرك به ولو كان شركا أصغر، كما أن من سجد له نهاه عن السجود له، وكما قال: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد " وأمثال ذلك.

وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزيز وغيرهما ولهذا كانت الصلاة في حياته مشروعة عند قبره منهيا عنها والصلاة خلفه في المسجد مشروعة إن لم يكن المصلي ملاقاته والصلاة إلى قبره منهيا عنها.

فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أنه لا يعبد إلا الله،

والثاني: أن لا يعبد إلا بما شرع لا بعبادة مبتدعة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به وما لم يعلمه أمسك عنه " ولا تقف ما ليس لك به علم " ولا تقل على الله ما لا تعلمه.

أقوال العلماء في اليمين بالنبي ﷺ

وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله ولو حلف بالكعبة أو الملائكة أو بالأنبياء عليه الصلاة والسلام لم تنعقد يمينه ولا يشرع له ذلك بل ينهى عنه إما نهي تحريم وإما نهي تنزيه فإن للعلماء في ذلك قولين والصحيح أنه نهي تحريم ففي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ".

وفي الترمذي عنه أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " ولم يقل أحد من العلماء أنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي ﷺ روايتين لكن الذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد وهذا هو الصحيح، ولا يستعاذ أيضا بالمخلوقات بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته ولهذا احتج على أن كلام الله غير مخلوق بقوله ﷺ: " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " فقد استعاذ بها والمخلوق لا يستعاذ به. وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: " لا بأس بالرقي ما لم يكن شركا " كالتي فيها استعانة بالجن كما قال تعالى: " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " وهذا مثل العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن وقد نهي عن كل قسم وعزيمة لا يعرف معناهما بحيث أن يكون فيهما ما لا يجوز فيهما ما لا يجوز من سؤال غيره.

فسائل الله بغير الله إما أن يكون مقسما عليه وإما أن يكون طالبا بذلك السبب كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، فإن كان إقساما على الله بغيره فهذا لا يجوز وإن كان طالبا من الله بذلك السبب كالطلب منه بدعاء الصالحين والأعمال الصالحة فهذا يصح لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا بذلك كنا متوسلين تبقى عنده، وإما إذا لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة، ولا ريب أن لهم عند الله من المنازل أمرا يعود نفعه عليهم ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا لهم، وبدعائهم لنا، فإذا توسلنا إلى الله بأيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته ونحو ذلك فهذا من أعظم الوسائل، وأما نفس ذاته مع عدم الإيمان به، وعدم طاعته وعدم دعائه لنا، فلا يجوز فالمتوسل إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منه ولا بما من الله فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فأما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك الغير مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان، وأما أن يسأل. كما يقال بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك، وقد علم أن الإقسام على الله بغير الله لا يجوز أن يقسم بمخلوق على الله أصلا.

حديث الأعمى ووجه التأويل فيه

وأما حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له كما طلب الصحابة رضي الله عنهم الاستسقاء منه ﷺ وقوله: " أتوجه إليك بنبيك محمد " أي بدعائه وشفاعته لي. ولهذا في تمام الحديث: فشفعه في. فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه. وقد قال تعالى: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " فعلى قراءة الجمهور إنما يتساءلون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله متضمن إقسام بعضهم على بعض بالله وتعاهدهم بالله. وأما على قراءة الخفض فقد قالت طائفة من السلف: هو قولك أسألك بالله وبالرحم. فمعنى قولك أسألك بالرحم ليس إقساما بالرحم فإن القسم بها لا يشرع لكن بسبب الرحم أي إن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقا كسؤال " أصحاب الغار " الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم الصالحة.

سؤال الله بحق عابديه عليه

ومن هذا: الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ في دعاء الخارج إلى الصلاة: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياءا ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة " فهذا الحديث عن عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان هذا كلام النبي ﷺ فهو من هذا الباب لوجهين أحدهما أن فيه السؤال لله بحق السائلين عليه، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أحقه على نفسه سبحانه وتفضل به، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئا. ومنه قوله تعالى: " كتب ربكم على نفسه الرحمة " " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " " وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ".

وفي الصحيح من حديث معاذ: " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم " فحق السائلين والعابدين له هو الإثابة والإجابة فذلك سؤال له في أفعاله كالاستعاذة وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " فالاستعاذة بالمعافاة التي هي فعله كالسؤال بإثباته التي هي فعله.

وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي ﷺ: " إن الله يقول يا عبدي إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي تعبدني ولا تشرك بي شيئا، والتي هي لك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك منك الدعاء وعلي الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فائت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك " وتقسيمه في الحديث إلى قوله واحدة لي وواحدة لك هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة بحيث يقول الله تعالى: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " والعبد يعود عليه نفع النصفين والله تعالى يحب النصفين لكن هو سبحانه يحب أن يعبد وما يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه وإن كنا خرجنا عن المراد.

الحلف والإقسام بغير الله على الله وسؤاله بحقهم عليه

الوجه الثاني: الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته، وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون إقساما به أو تسببا به، فإن قوله: بحق الصالحين إن كان إقساما عليه فلا يقسم على الله إلا بصفاته. وإن كان تسببا فهو تسبب لما جعله سبحانه سببا وهو دعاؤه وعبادته، فهذا كله يشبه بعضه بعضا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا عمل صالح منا، فإذا قال القائل أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين فإن كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب حصول مقصوده لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة أو منهم كدعائهم لنا - لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله. وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك يا إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه: " يا داود أي حق لآبائك علي؟ " وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.

وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه وبه لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله وأما لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال: أقسمت عليك يا رب بملائكتك ونحو ذلك بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته. فيقال: " أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت يا الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك " الحديث كما جاءت به السنة وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام، وقوله: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة - مع أن في جواز الدعاء به قولين للعلماء فجوزه أبو يوسف ومنع منه أبو حنيفة وأمثال ذلك - فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وهو أجمع وأنفع، وأسلم وأقرب إلى الإجابة.

حديث السؤال بجاه الرسول موضوع

وأما ما يذكره بعض العامة من قوله ﷺ: " إذا كانت لكم إلى الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم " فهذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث والمشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا ذكر الدعاء في الاستسقاء. وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه، ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق فدعاء غير الله كفر بخلاف قول القائل إني أسألك بجاه فلان الصالح فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه كان يدعو به.

ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في حق غير النبي ﷺ ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء. ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي ﷺ لكن هذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به.

وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " وفي الصحيح عنه أنه قال: " من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ".

وفي المسند أن رجلا قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث صلواتي قال: " يكفيك الله ثلث أمرك " فقال: " أجعل عليك نصف صلاتي " قال: " إذا يكفيك الله ثلثي أمرك " فقال أجعل صلاتي كلها عليك فقال: " إذا يكفيك الله ما أهمك من أمور دنياك وآخرتك ".

وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي اتباع ذلك.

دعاء غير الله وطلب الدعاء من الميت

والمراتب في هذا الباب ثلاثة: أحدها: أن الدعاء لغير الله سواء كان المدعو حيا أو ميتا وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان أغثني! وأنا مستجير بك ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها، وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لما أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيرا في زماننا وغيره وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة لاستغاثة بي أو بغيري وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك.

سؤال الموتى والاستغاثة بهم بدعة وضلالة

الثاني: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي وادع لنا ربك ونحو ذلك فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزا ومخاطبتهم جائزة كما كان ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور وأن يقول قائلهم: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ". وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: " ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ".

وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: " ما من رجل مسلم سلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ". لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئا. وفي الإمام مالك: أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي " ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نقل عنهم السلام على النبي ﷺ فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلوا القبر الشريف. وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة من لا اعتبار بهم فإنه لم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله ولا من له في الأمة لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي ﷺ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر، وقال مالك والشافعي بل يستقبل القبر وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه وهو الصحيح إذ لا محذور في ذلك.

الثالث: أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ونحو ذلك، فهو الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي ﷺ، وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء فكيف بغيرهم، وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي ﷺ أنه قال: " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور " أو قال: " فاستغيثوا بأهل القبور " فهذا الحديث كذب مفترى على رسول الله ﷺ بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة.

تعظيم موتى الصالحين سبب عبادة الأصنام

وقد قال تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده " الآية. وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي ﷺ عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيرا من الفتنة باليهود فإن ذلك هو أصل عبادة الأصنام أيضا فإن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء فمن فهم معنى قوله: " إياك نعبد وإياك نستعين " عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده.

وقد يستغاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله والتوكل لا يكون إلا على الله، وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا سبحانه، وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله تعالى والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبته وسلم تسليما كثيرا. انتهى.

هامش

 

  مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

    قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ

  وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

فتيا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مسألة في الغيبة)

 بسم الله الرحمن الرحيم



فتيا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مسألة في الغيبة)

 هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه؟ وما حكم ذلك؟ أفتونا بجواب بسيط ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم.

(الجواب) الحمد لله رب العالمين، أصل الكلام في هذا أن يعلم أن الغيبة هي كما فسرها النبي ﷺ في الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال " هي ذكرك أخاك بما يكره " قيل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ".

بين ﷺ الفرق بين الغيبة والبهتان وأن الكذب عليه بهت له كما قال سبحانه (لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال تعالى (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) وفي الحديث الصحيح " أن اليهود قوم بهت ".

فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلما أو كافرا، برا أو فاجرا، لكن الافتراء على المؤمن أشد بل الكذب كله حرام.

ولكن يباح عند الحاجة الشرعية "المعاريض" وقد تسمى كذبا لأن الكلام يعني به المتكلم معنى، وذلك المعنى يريد أن يفهمه المخاطب، فإذا لم يكن على ما يعنيه فهو الكذب المحض، وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض، وهي كذب باعتبار الإفهام، وإن لم تكن كذبا باعتبار الغاية السائغة، ومنه قول النبي ﷺ " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله: قوله لسارة أختي، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله (أبي سقيم) " وهذه الثلاثة معاريض، وبها احتج العلماء على جوار التعريض للمظلوم، وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب، ولهذا قال من قال من العلماء إن ما رخص فيه رسول الله ﷺ إنما هو من هذا كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي ﷺ أنه قال " ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا " ولم يرخص فيما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث في الإصلاح بين الناس وفي الحرب وفي الرجل يحدث امرأته.

قال فهذا كله من المعاريض خاصة ولهذا نفى عنه النبي ﷺ اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال " الحرب خدعة " وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها.

ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي ﷺ هذا الرجل يهديني السبيل " وقول النبي ﷺ للكافر السائل له في غزوة بدر " نحن من ماء " وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره " أنه أخي " وعنى أخوة الدين، وفهموا منه أخوة النسب، فقال النبي ﷺ " إن كنت لأبرهم وأصدقهم.. المسلم أخو المسلم ".

الغيبة.. تحقيق معناها، والكذب، والمعاريض

والمقصود هنا أن النبي ﷺ فرق بين الاغتياب وبين البهتان، وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه إذا كان صادقا فهو المغتاب، وفي قوله ﷺ " ذكرك أخاك بما يكره " موافقة لقوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) فجعل جهة التحريم كونه أخا أخوة الإيمان، ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن، فكلما كان أعظم إيمانا كان اغتيابه أشد.

ومن جنس الغيبة: الهمز واللمز، فإن كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم كما في الغيبة، لكن الهمز هو الطعن بشدة وعنف، بخلاف اللمز فإنه قد يخلو من الشدة والعنف، كما قال تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) أي يعيبك ويطعن عليك. وقال تعالى (ولا تلمزوا أنفسكم) أي لا يلمز بعضكم بعضا. وقال (هماز مشاء بنميم) وقال (ويل لكل همزة لمزة).

مدح ما مدح الله ورسوله، وذم ما ذمه

إذا تبين هذا فنقول: ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين (أحدهما) ذكر النوع (والثاني) ذكر الشخص المعين الحي أو الميت.

أما الأول: فكل صنف ذمه الله ورسله يجب ذمه وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه، وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه، فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء، كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء، ولعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والمحلل والمحلل له، ولعن من عمل عمل قوم لوط، ولعن من أحد حدثا أو آوى محدثا، ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها، ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها، ولعن الله الذي يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين.

والله هو وملائكته يصلون على النبي ويصلون على الذين آمنوا والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير، وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات.

فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه فلا بد من ذكر ذلك ولهذا كان النبي ﷺ إذا بلغه أن أحدا فعل ما ينهي عنه يقول " ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " " ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده " " ما بال رجال يقول أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر؟ ويقول الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام؟ ويقول الآخر: لا أتزوج النساء. ويقول الآخر: لا آكل اللحم؟ لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنا وأتزوج النساء وآكل اللحم؟ فمن رغب عن سنتي فليس مني ".

وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك مثل أسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك مما يراد به التعريف كما قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون) وقال (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) وقد قال ﷺ " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " وقال " إلا أن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا " وقال " إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس من آدم وآدم من تراب " وقال " أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ".

الموالاة والمعاداة لله وفي الله بقدر طاعة الله

فذكر الأزمان والعدل بأسماء الإيثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره، فأما الحمد والذم والحب والبعض والموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرا وجبت معاداته من أي صنف كان، قال تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقال تعالى (افتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين بدلا) وقال تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).

المعصية لا تنفي أخوة الإسلام وولايته، ومتى يذكر شره وخيره

ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطى من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين - إلى قوله - إنما المؤمنون أخوة) فجعلهم أخوة مع وجود الاقتتال والبغي، وقال تعالى (أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟) وقد قال تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فهذا الكلام في الأنواع.

وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع

(منها) المظلوم له إن يذكر ظالمه بما فيه إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال لها النبي ﷺ " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " كما قال ﷺ " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " وقال وكيع: عرضه شكايته وعقوبته حبسه، وقال تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) وقد روى: إنها نزلت في رجل نزل بقوم فلم يقروه. فإذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع الناس في وجوبه وإن كان الصحيح أنه واجب، فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذي اتفق المسلمون على استحقاقه إياه؟ أو يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان ولا دخول في كذب ولا ظلم الغير وترك ذلك أفضل.

ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم من الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي ﷺ من تنكج؟ وقالت: أنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء " وروي " لا يضع عصاه عن عاتقه " فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك وهذا يؤذيك بالضرب. وكان هذا نصحا لها - وإن تضمن ذكر عيب الخاطب.

وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه. وأمثال ذلك، وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء والحكام والشهود والعمال أهل الديوان وغيرها؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي ﷺ " الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا لمن يا رسول الله؟ قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وقد قالوا لعمر بن الخطاب: في أهل الشورى أمر فلانا وفلانا، فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمرا جعله مانعا له من تعيينه.

جرح رواة الحديث بالحق وبدع المبتدعة واجب شرعا=

وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره.

وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا، فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم.

ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبل الله ودينه ومناهجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء.

وقد قال النبي ﷺ " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وذلك أن الله يقول في كتابه (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكر. فقوام الدين بالكتاب الهادي، والسيف الناصر (وكفى بربك هاديا ونصيرا).

والكتاب هو الأصل ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد.

التحذير من المنافقين والمبتدعين وبيان حالهم مشروع لا غيبة

وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله (جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم) في آيتين من القرآن.

فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله.

وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوهم قولهم حقا وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاء إلى بدع المنافقين كما قال تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم.

وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم يكن كذلك لوجب بيان حالها.

شروط غيبة المنافق والمبتدع: "العلم" و"حسن النية"

ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة، وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطاه بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله ﷺ مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق الرافضة عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما وكذلك القاضي والشاهد والمفتي كما قال النبي ﷺ " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بخلاف ذلك فهو في النار " وقد قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى إن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) واللي هو الكذب والإعراض كتمان الحق ومثله ما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذاب وكتما محقت بركة بيعهما ".

ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء. وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل، وليس هذا الباب مخالفا لقوله " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره " فإن الأخ هو المؤمن وأخا المؤمن إن كان صادقا في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه، بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهدا لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه، ومتى كره هذا الحق كان ناقصا في إيمانه، ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه، فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه إذ كراهته لما يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه).

ثم قد يقال: هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظا ومعنى وقد يقال دخل في ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه فالحكم واحد والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ إذ العلة قد يعني بها التامة وقد يعني بها المقتضي والله أعلم وأحكم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية

  مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية ( وهي من أعظم ما تصدى له وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه م...